باسْمِه تعالى
كم هو جميل أن ينظر المرء حواليه باحثاً عن بعض
الأثارات من علم وأخبار من مضى، فيبحث ذات اليمين وذات الشمال فلا يجد ما يبرد
الغلة، أو يشفي العلة، على الفضول وحب الاستطلاع، واستكناه أحداث الأيام الخوالي.
ثم إذا به يظفر بين طرفة عين وانتباهتها، فيجد ما كان شغوفاً بمعرفته، والبحث عنه.
وكم في تراثنا وتاريخنا الإسلامي عموماً، والتاريخ
المحلي لبلدان المسلمين، من معالم وأحداث لم تأخذ حظها من البحث والإبراز
والتوثيق، وتمضي الأيام والسنوات، وتنسى وتضيع الكثير من الحقائق والأخبار، وتندثر
وتبلى الوثائق، ولا يسلم من عوادي الأزمنة، ومن الاندراس تحت عجلة التاريخ إلا ما
كتب الله له البقاء، وحفظه للعيان، بسبب نية صالحة كانت قد سبقت لمؤسسيه، أو لحكمة
أراد المولى إظهارها وبروزها للعيان.
وما جمعية الحق في تريم، أثراً وتاريخاً، إلا نموذج
لما وصفناه من تلك الآثار العمرانية الحضارية، التي أصابها ما أصاب غيرها من
المعالم الأثرية المهمة في وادي حضرموت، فإن هذا المعلم العلمي الحضاري الإسلامي،
الذي يعد من مفاصل تاريخ النهضة الحديثة في وادي حضرموت، أقصى جنوب الجزيرة
العربية، والذي أضاء للناس في البلدة الغناء بضعة عقود من الزمن، كان قد خبا ضوءه،
وطفئت شمعته، لأسباب تاريخية وسياسية واجتماعية عديدة.
كتب الكثيرون من أبناء تريم، ومن مؤرخي الحضارمة،
عن جمعية الحق وعن مدرستها، وكانت كتاباتهم تعريفية أكثر من كونها توثيقية، وقد
أبرأوا ذمتهم أمام التاريخ بذكر تلك المعلومات القيمة التي أودعوها مصنفاتهم، كما
فعل العلامة ابن عبيدالله السقاف، والعلامة محمد الشاطري، والأستاذ باوزير،
وغيرهم، ممن كتب عن النهضة العلمية وتاريخها في حضرموت. ولكن الحاجة الماسة إلى
إظهار دور تلك المدرسة والجمعية لم تزل دواعيها قائمة.
لقد اندرست أكثر معالم المبنى التاريخي الذي أنشئ
ليكون مقراً لجمعية ومدرسة الحق بتريم، ولكن الأهالي، وورثة المؤسسين احتفظوا
بالعديد من الوثائق المهمة التي يعود بعضها إلى ما قبل قرن من الزمان.
ومما شهدته في مدة إقامتي بتريم الغناء، أيام
الدراسة في كلية الشريعة بها، محاضرة قيمة ألقاها السيد الفاضل علوي بن سهل الكاف،
حفيد السيد عبدالرحمن بن شيخ الكاف، أحد مؤسسي الجمعية، بل هو أبوها الشرعي إن صح
التعبير، والسيد علوي يحتفظ لديه بوثائق التأسيس ونص القانون الرسمي، وغير ذلك من
الوثائق. وكانت محاضرة ممتعة، ألقيت في مقر حزب الإصلاح بتريم، الكائن في الشارع
العام قرب قصر التواهي، وكان من بين الحضور الشيخ علي سالم بكير باغيثان، والأستاذ
كرامة سليمان بامؤمن، وعدد من المهتمين، وكانت المداخلات جيدة، كان ذلك في سنة
1419هـ فيما أذكر. ولم أحضر محاضرة تاريخية في تريم سواها آنذاك. وعقب تلك
المحاضرة تواصلت مع السيد علوي سهل الكاف، رغبة في خدمة تاريخ حضرموت وإبراز تلك
الوثائق التي لديه، فرأيته متحفظاً بعض الشيء، وقال: سيأتي وقتها المناسب لنشرها.
وهاهو اليوم قد أذن وسمح بنشر وثائق جمعية الحق،
وتصدى للكتابة عنها، الأخ الكريم الأستاذ هشام الرباكي، من أبناء الغناء النشطين،
فحياه الله، وحيا همم الشباب الناهض المتطلع لخدمة تاريخه وتراثه، وقد كتب هذا
البحث الشيق، وطعمه بالتراجم والصور، وأفرغ ما وجده من معلومات في بطون الأوراق
القديمة وسود بها أوراق بحثه، فأشبهت الكحل في عيون بحثه القيم.
ولقد حمّلني الأخ الكريم عبءَ التقديمِ لبحثه هذا،
وهو وإن كان مستغنياً عن سطوري، قائماً متحدثاً عن نفسه بنفسه، إلا أن حسن ظن أخي
الكريم، ورغبته في التواصل العلمي، ولمودة يكنها في قلبه الصافي تجاه إخوته، دفعته
إلى طلب ذلك، والإلحاح عليه، والمتابعة الحثيثة لتحقيقه، ولا أجد ما أكافئه به إلا
قولي:
أحسَنْتَ صُنعاً يا هشام ** ووقيت من حسد اللئامْ
أحسنْتَ صُنعاً يا ابن هـ ** ـاتيكَ الروابي والخيامْ
أدّيتَ دَيناً في رقابِ الــ** ــقَومِ هذبْتَ الكلامْ
و
لقد أمطْتَ ببَحثِكَ الــ ** ـــغالي عن الحُسْن اللثامْ
هو حُسْنُ مأثَرةِ النهو ** ضِ وحُسْنُ جَوهرة النظامْ
جمعيةِ الحقِّ التي ** نهضَتْ بها قومٌ عظامْ
جمعيةِ الحَقِّ التي ** لمعَتْ ضياءً في الظلامْ
كَمْ ذا لها من سُمعةٍ ** حَسُنَتْ وكان لها احترامْ
قد شَادَها قومٌ سمَوا ** بالعلم يا نعم الكرامْ
وتخَرجُوا من الأولى ** أهلُ المعارف والذّمامْ
حلقْ بتاريخ البلا ** دِ
وقُمْ، وحَقِّك لن تضامْ
سيسُودُ في التاريخِ مَنْ ** أدّى الأمانة واستقامْ
سيسُودُ في التالين مَنْ ** سَهِرَ الليالي لا ينامْ
فامضوا بني قومي إلى ** العلياء واخترقوا الزِّحامْ
لا تيأسوا فاليأسُ مو ** تٌ والبقاء لذي الدوامْ
دومُوا على عزَماتكم ** فالعزْمُ في الدنيا الحسامْ
شقُّوا الطريقَ إلى العلا ** مَهْرُ المعالي مستدامْ
درْبُ المعالي شائكٌ ** ما فازَ إلا المستهامْ
فالحمدلله
على ما وفق وهدى، والشكر للباحث الكريم أن فرّغ من وقته وجهده للكتابة عن هذا
المعلم التاريخي، ولقد قضى ديناً، وحملَ عن أهل تريم خاصة، والحضارمة عامة ثقلاً،
وعسى أن يقتدي به الباحثون الجادون، فيظهروا من زوايا الوادي المبارك، ومن بين
الركام الثقافي العلمي المتوافر، ما يؤدون به خدمة جلى للوطن والبلاد، والله
الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
وكتبه
د. محمد أبوبكر باذيب
جدة،
ضحى الأحد 18 جمادى الآخرة 1434
الموافق
28 أبريل 2013م