الاستحباب والإجزاء بقول (عظم الله أجرك) في العزاء
بقلم/
د. محمد أبوبكر باذيب
الحمدلله،
والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن والاه
..
أما
بعد؛
فإن
مذاكرة العلم وبحث المسائل الدينية لمن أجل الأعمال، وأكرمها وأحبها الى النفوس، ولا
سيما إذا جاءت مناسبة لذلك، وجرت مباحثة مع أهل الفضل والدين، فتنبعث الفوائد،
وتبرز الفرائد الخرائد.
ومن
هذا،
ما جرى من سؤال لبعض الفضلاء، بعث به إليّ، يقول: هل يصح أن يقال في عزاء
الكبار: (لله ما أخذ وله ما أعطَى، وكل شيء عنده بأجل مسمى)؟ أم هذه الصيغة خاصة في
التعزية بموت الأطفال؟
فأجبته
جواباً وجيزاً يناسب حاجة السائل وزمن السؤال، وأفصله هنا: بأن هذه الصيغة وردت في
(صحيح البخاري) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه (1284): قال: أرسلت ابنة النبي
صلى الله عليه وسلم إليه إن ابناً لي قبض فائتنا فأرسل يقرئ السلامَ، ويقول:
"إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكلٌّ عنده بأجلٍ مسمى فلتصبر ولتحتسب"،
الحديث.
وهي
من صيغ التعزية المسنونة. قال الإمام النووي في (المجموع: 5/ 305): "ويستحب
التعزية بما ذكره المصنف من تعزية الخضر وغيرها مما فيه تسلية وتصبيرٌ، ومن أحسنه:
ما ثبت في (الصحيحين) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: أرسلت إحدى بنات النبي
صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبيا لها أو ابناً في الموتِ، فقال
للرسول: "ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطَى، وكل شيء عنده بأجل
مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب". وذكر تمام الحديث، وهو من أعظم قواعد الإسلام
المشتملة على مهمات من الأصول والفروع"، انتهى كلام النووي رحمه الله. وهو
كما ترى عام في كل تعزية، ولم أقف على نص لعالم أو فقيه معتبر يخصص هذه الصيغة
بالتعزية في الاطفال. والحديث وإن ورد في تعزية بطفل. ولكن القاعدة تقول: العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والله أعلم.
حكم التعزية بقول: (أعظمَ، أو: عظّم الله أجرك)
ولما
اطلع على الجواب السابق بعض الفضلاء، استحثه الجواب الى ذكر فائدة وقف عليها في كلام
العلامة ابن عبيدالله السقاف، وهي قوله في كتابه (إدام القوت: ص 487 ط. الإرشاد، و:
ص 867-868 ط. المنهاج): "وفي روايةٍ عن الشّافعيّ: أنّه لا يحبّ أن يقال في
التّعزية: أعظَم الله أجرك؛ لما في طيّه من الاستكثار من المصائب. فسحبتُ عندئذ ما
كان منّي من استحسان ذلك، وتبت عنه توبة صادقة أرجو الله قبولها"، انتهى كلام
السقاف. فجرت مباحثة حول تلك الفائدة المنقولة، وبينتُ له أن معتمد المذهب
الشافعي، بل وبقية المذاهب الثلاثة، القول بسنية التعزية بهذه الصيغة، وأنه لا
خلاف في جوازها، وأن القول بعدم الجواز أو الكراهة قول لا يلتفت إليه، ولا يعمل
به.
ورغبة
في عموم الفائدة، فقد عدتُ الى المصادر، ورتبت النقول والفوائد، في هذا المقال،
رجاء أن ينتفع به من يقف عليه، ويتبين له وجه الصواب، وأن المسائل لا تؤخذ من كتب
المناقب والطبقات، بل من كتب الفقه المعتمدة، وليس كل ما ورد في كتب المناقب
والطبقات يعمل به، وإنما تذكر للملح والاستغراب.
تأصيل المسألة
قال
التاج السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى: 2/ 138)، آخر ترجمة الربيع المرادي صاحب
الشافعي: "وقال ابن خزيمةَ، فيما ذكره البيهقىُّ، سمعتُ الربيعَ يقول: سمعت
الشافعىَّ يقولُ: أكره أن يقول أعظم الله أجركَ، يعني في المصابِ، لأن معناه: أكثر
الله مصائبك ليعظم أجرك"، انتهى.
وبالرجوع
الى (مناقب الشافعي) للبيهقي (2/ 217)، نجد النص بعينه عنده، قال رحمه الله:
"قرأتُ في كتاب العاصِمي: سمعتُ دعلجَ بن أحمد، بالعراق، يقول: سمعتُ محمد بن
إسحاق بن خُزَيْمَة، يقول: سمعتُ الربيعَ يحكي عن الشافعي: أنه كان يكره أن يقول:
أعظم الله أجرك - يعني في المصَائب - ويقول: إذا قال: أعظَم الله أجركَ، معناه:
أكثر الله مصائبك ليعظم أجرك"، انتهى.
وقال
ابن قاضي شهبة (ت 851هـ) في (طبقات الشافعية: 1/ 147) أثناء ترجمة محمد بن الحسين
الآبُري (ت 363ه): "وصنف كتابا فِي (فَضَائِل الشَّافِعِي) وَفِيه غرائبُ
وفوائدُ. قَال السُّبْكِيّ [3/147]: وَهُوَ من أحسن مَا صُنفَ فِي هَذَا النَّوْع.
روَى عَن ابْن خُزَيْمَة قَالَ: سَمِعت الرّبيع يَحْكِي عَن الشَّافِعِي: أَنه
كَانَ يكره أَن يَقُول: أعظم الله أجرك. وَيَقُولُ: إِذا قَالَ: أعظم الله أجركَ؛
مَعْنَاهُ: أَكثرَ مصائبك". انتهى.
ولم
أجد، بعد جهدٍ في البحث، من رويَ عنه كراهة القول إلا مطرف بن عبدالله بن الشخّير،
رحمه الله، وذلك ما أورده البيهقي (2/ 218) نقلاً عن ابن خزيمة [وفي نسخة من
المناقب: ابن جرير]، قال: "حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: حدثني أبي
قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن مطرف، قال: لا تقُل: أعظم الله أجركَ، ولكن قل: آجركَ
الله".
التعليق:
أولاً: في توثيق عبارة الإمام الشافعي التي نسبت إليه.
نجد أن السبكي عزا القول الى البيهقي فابن
خزيمة مباشرة ولم يشر الى الوسائط. بينما ابن قاضي شهبة أسند الخبر عن الآبري، والبيهقي
أسنده عن العاصمي، وهما رجلٌ واحد. هو أبو الحسن، محمد بن الحسين بن إبراهيم بن
عاصم الآبري المتوفى 363هـ من تلامذة ابن خزيمة. صرح البيهقي باسمه في (المناقب:
1/94). ولم يذكر سوى البيهقي هذه النسبة (العاصمي) للآبري، وهي غريبة، وعلق محقق
(تاريخ دمشق) لابن عساكر (5/410) على هذه النسبة بأنها وردت في بعض المطبوعات:
القاضي. والصواب: أن (العاصمي) نسبة الى جد له اسمه عاصم، كما في (الأنساب)
للسمعاني (1/63)، فنسبته عند البيهقي صحيحة لا غبار عليها، والله أعلم.
إذا
تقرر ذلك، علمنا أن مصدر رواية ابن خزيمة عن الربيع عن الشافعي، هو كتاب (فضائل
الشافعي) للآبري، ولم يخرجها ابن خزيمة في شيء من كتبه، كما بحثت، كما لم يخرجْها
البيهقي في شيء من كتبه التي في أدلة الأحكام، واكتفى بتخريجها في (المناقب). وأما
ذكر السبكي لها في (الطبقات) فهو جارٍ على ما اعتمده فيها من ذكر الغرائب والمسائل
المفاريد، فهو لا ينقل في (الطبقات) شيئا من الأحكام المعروفة المقررة في المذهب،
بل شرطه فيها كما قال في مقدمتها (1/ 208): "إذ أعظم مقاصدنا: أنّا عند
الفراغ من ترجمة كل رجلٍ، أو في أثنائها، ننظرُ؛ فإن كان من المشهورين الذين طارت
تصانيفهم فملأت الأقطار ودارت الدنيا ولم تكتف بمصر من الأمصار؛ نظرنا: فإن وجدنا
له تصنيفاً غريباً استخرجنا منه فوائدَ، أو مسائل غريبةً، أو وجوهاً في المذهب
واهيةً، وكتبناها. وإلا فنذكر وجهاً غريباً ذُكر عنه، أو مقالة غريبةً ذهب إليها
وشذَّ بها عن الأصحابِ. وإن كان من المقلين أعملنا جهدنا في حكاية شيء من ذلك عنه"،
انتهى.
فها
أنت ترى أن السبكيّ وضح مراده بسوق تلك الغرائب، وأنه يسوقها لبيان شذوذها أو
غرابتها، مما يدل دلالة قاطعة على أنها غير معتمدة ولا مقررة في المذهب.
ثانياً:
كلام أهل اللغة في التفريق بين عظّم، وأعْظَم.
جاء
في الكتاب العزيز، قوله تعالى: {ويعظم له أجرا} [الطلاق: 5].
وفي (الفصيح: ص 305) لأبي العباس ثعلب (ت 291هـ)، في باب المشدد: "وعظم الله
أجرك"، اهـ. قال ابن درستويه (ت 347هـ) في (تصحيح الفصيح وشرحه) (ص 390):
"وأما قوله: عظَّم الله أجرك، يعني: بتشديد الظاء، فإن العامة تقوله بتخفيفها،
وهو خطأ. وذلكَ إنما يقال في تعزية المصاب بمصيبته، وهو من تعظيم الأجر وتكثيره.
ويقال أيضا: أعظمَ الله أجرك، بالألف على أفعل، تعظمه إعظاماً، أي: جعله عظيما".
وقال
الإمام أبو جعفر النحاس في (إعراب القرآن) (4/ 66): "وربما وقع الغلط
من بعض أهل اللغة فيما يذكرون من فصيح الكلام. فأما المحققون فلا يفعلون ذلك فمما
ذكر بعضهم في الفصيح من الكلام، ..."، الى أن قال: "وذكر بعضهم أنّ الفصيح: عظّم الله أجرك، وإجماع الحجّة في قراءة القرا:
{وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}، في حروف كثيرة"، انتهى. وقال
في موضع آخر (4/ 298): "{وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}، أي: يجزل له الثواب. قال
أبو جعفر: ولا نعلمُ أحداً قرأ إلا هكذا، على خلافِ قول: عظّم الله أجرك"،
انتهى.
ثالثاً:
ما جاء في تضعيف القول بعدم الاستحباب، وما نقل من كلام الشافعي نفسه وتلاميذه في
المسألة:
اتفقت
كلمة الفقهاء الشافعية في متون الفقه المطولة والمختصرة على استحباب قول (عظم الله
أجرك) في التعزية، وتنبه بعضهم الى تلك الروايات الضعيفة التي وردت في عدم
استحبابها، فقال الشيخ ابن حجر الهيتمي (ت 973هـ) رحمه الله في (تحفة المحتاج:
3/177): "يقال في تعزيته: أعظم الله أجرك، أي: جعله عظيماً بزيادة الثواب
والدرجات. فاندفَع ما جاء عن جمعٍ من كراهته، لأنه دعاءٌ بتكثير المصائب. ووجهُ
اندفاعه: أن إعظام الأجْرِ غير منحصر في تكثير المصائب"، انتهى.
بل
عبارة الإمام الشافعي نفسه كما وردت في (مختصر المزني: 8/ 134): "قال الشافعي:
وأحب تعزية أهل الميتِ رجاءَ الأجر بتعزيتهم، وأن يخصَّ بها خيارهم وضعفاؤهم عن
احتمال مصيبتهم. ويعزَّى المسلمُ بموت أبيه النصراني، فيقول: أعظم الله أجرك وأخلف
عليك".
بل
نقل عن الإمام أحمد بن حنبل (ت 264هـ) إمام أهل السنة، رحمه الله، وأحد أكابر
أصحاب الإمام الشافعي، أنه عزى رجلاً فقال له: عظم الله أجرك، نقله أبو داود في
(مسائله: 923). وقال ابن المكين الأنطاكي: سمعتُ أحمد بن حنبل، وقال لرجل: ما فعلتِ
الوالدة؟ قال: توفيت يا أبا عبد الله. فقال له أحمدُ: أعظم الله أجرك. (الطبقات: 1/
193).
ومما
ورد في الأخبار:
رابعاً:
في نقل طائفة من عبارات الفقهاءالشافعية،، من كتبهم الشهيرة.
قال
الإمام الرافعي (ت 631هـ) في (العزيز شرح الوجيز = الشرح الكبير: 2/459): "فيقول
في تعزية المسلم بالمسلم: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وغفر لميتك، وفي تعزية
المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأخلف عليك أو جبر الله مصيبتك، وألهمك الصبر وما
أشبه ذلك".
وعبارة
(الروضة: 2/144) للإمام النووي (ت 676هـ): " فيقول في تعزية المسلم بالمسلم:
أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك". وعبارة (المنهاج: ص 61): " والتعزية
سنة قبل دفنه وبعده ثلاثة أيام ويعزى المسلم بالمسلم أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك".
وعبارته في (الأذكار: ص 150): " وأما لفظةُ التعزية، فلا حجْرَ فيه، فبأيّ
لفظ عزَّاه حصلتْ. واستحبَّ أصحابُنا أن يقول في تعزية المسلم للمسلم: أعْظَمَ
اللَّهُ أجْرَكَ، وأحْسَنَ عَزَاءَكَ، وَغَفَرَ لمَيِّتِكَ".
هذا
ما تيسر جمعه، والنصوص وافرة كثيرة، ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد، فقد علمتَ،
رعاك الله، أن القول بعدم استحباب (عظم الله أجرك)، قول مهجور، والعمل على خلافه،
فلا بأس ولا حرج البتة على من عزى أخاه المسلم بقوله (عظم الله أجرك) والأفضلُ قول: (أعْظَم الله أجرك) لوروده في التنزيل، وألفاظ
التعزية، كما قال الإمام النووي في (الأذكار) لا حجْر فيها.
والله الموفق والهادي
الى سواء السبيل.
فرغت من تقييد هذه المسألة، وترتيبها،
في سويعة بعد
ظهر السبت 4 ذي الحجة الحرام سنة 1441هـ،
موافق: 25 يوليو 2020م.