الاثنين، 10 أغسطس 2015

من أخبار الرحلة الهندية الرابعة: ثلاث ليال في مديرية أعظم كرهـ ونواحيها


يقول محمد باذيب، سامحه الله:
هناك بيتان من الشعر مشهوران، لا يعرف قائلهما، تحدث فيهما الشاعر عن تجربته التي خاضها في غمار هذه الحياة، من معاناة الأسفار، وملاقاة الناس الأخيار، فقال:

لاَ يَمْنَعَنَّكَ خَفْضَ الْعَيْشِ فِي دَعَةٍ **  نُزُوعُ نَفْسٍ إلَى أهْلٍ وأوْطَانِ
 تَلْقَى بِكُلِّ بلاَدٍ إنْ حَلَلْتَ بِهَا ** أهْلاً بِأهْلٍ وَجِيرَاناً بِجِيرَانِ

وهذا البيتُ الأخير، وإن وصفه أبودلف العجلي بأنه ألأم بيت قالته العرب، إلا أن معنى البيت يمكن أن يوظف بصورة مستحسنة، من باب المودة والتواصل بين الناس والشعوب، لا من باب الاستنكاف عن الأهل والخلان، فهذا لا يقوم به إلا لئيم فعلاً كما قال أبودلف. ثم إن هذا المعنى أخذه الأديب الشاعر المرحوم علي الجارم ووظفه في قصيدته التي مطلعها:

يا دارَ فاتِنَتيِ حُيِّيتِ مِنْ دَارِ ** سَيَّرْتُ فيكِ وفيِ مَنْ فِيكِ أَشْعَارِي

وفيها يقول:

أسائِلُ الطَيْرَ عَنها لو تُنَبِّئني ** أو تنْقُلُ الطَيرُ عنها بَعْضَ أخْبار
يَنْسَى بهَا كلُّ نائِي الدَارِ مَوْطِنَهُ ** وما تجشَّمَ مِنْ بَيْنٍ وأَسْفَار
يَلْقى بها أينما أَلَقى عَصَاه بِها ** أَهلاً بأَهْلٍ وأَصْهاراً بأصْهار

شاهدُنا في الافتتاحية الشعرية هذه، ما لقيته من حفاوة وإكرام، من إخوة في الدين، لم أعرفهم قبل نزولي بفنائهم، ولم يطرق أسماعهم اسمي ولا اسم بلدي قبل قدومي عليهم، فبأي لسان تراني أكيل لهم المدح والثناء، وبأي تعبير أستطيع أن أصف ذلك الإكرام الذي لم يكن يخطر على بالي .. كل ما في الأمر اتصال هاتفي، وتعارُفٍ قبل أسبوعٍ من اليوم، من على بعد أكثر من 700 كلم، وكانت الدعوة الكريمة، والهمة الفخيمة، ثم يسر الله اللقاء، فتمثل لي قول ابن هانئ في مدح ابن فلاح:
كانت محادثة الركبانِ تخبِرُنا ** عن أهل مَوٍّ وتروي أطْيبَ الخبرِ
حتى التقَينا فلا والله ما سَمِعتْ ** أذني بأحْسنَ مما قَدْ رأى بصَري
* * *
في ضحى يوم الثلاثاء 28 ربيع الأول 1433هـ/ الموافق 21 فبراير 2012م: 
نزلت على سوح البلد المبارك، مئو، الواقعة أقصى شرق الهند، وعدت منها للتو، وكان غرض رحلتي زيارة من بها من أهل العلم والفضل والصلاح، وكنت أظنها قرية ذات بيوت معدودة، فإذا هي بلدة بالعلم والفضل مشهودة، تحتضن في جنباتها معاهد للعلم الشريف، ومنابر لنشر النور في النواحي ذات قدر منيف.
فعماذا تريدوني أن أتحدث .. عن دار العلوم التي أسست قبل 120 عاماً؟! متزامنة مع تأسيس دار العلوم ديوبند، والتي رفدت دار ديوبند بكبار رجالاتها على ممر العصور، ولا يزال بها حتى اليوم منهم ثلة من الكبار، مباركي الأعمال والأعمار.



(محراب مسجد مدرسة دار العلوم، مئو)

وينيف عدد طلابها وطالباتها اليوم عن 6000 ستى آلاف طالب وطالبة، في فروعها المنتشرة في نواحي البلدة والمناطق القريبة منها!! هذا العدد يفوق عدد سكان بلدتي (شبام حضرموت) وما حولها من قرى!! بل لا يزيد عدد طلاب العلم الدارسين في حضرموت كلها في هذه الساعة عن هذا الرقم!! يا لها من عظمة.
أم عن مدرسة مفتاح العلوم، التي أسست بعد دار العلوم، وكان يديرها أساطين العلماء، ورجال الهمم والوفاء، والتي كان تخرج محدث الهند الأعظم في هذا العصر منها، وأعني به مولانا الإمام المجدد حبيب الرحمن الأعظمي، ذلك الرجل الذي قدمت أتقصى آثاره، وأتنشق مآثره وأخباره، لأشتم من عرفها روح الريحان، وأتنسم عبير الجنان. وعدد طلابها يقارب اليوم 600 طالب جلهم في سكن داخلي.


(صورة نادرة للإمام المحدث الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي
1319 - 1412هـ / 1900 - 1992م)

أم عن مرقاة العلوم، التي أسسها الإمام المحدث عام 1398هـ، بعد تنازله عن إدارة مفتاح العلوم، وتحاشياً لنفسيات بعض المتنفذين الذين لم يراعوا له حرمة علمه وشَيبتِه، ولا حرمة صحبته لآبائهم، وانتفاع آبائهم وجدودهم من علمه! ما أعظم دناءة بعض النفوس الطائشة التي أخلد أصحابها إلى الأرض.






(عند مدخل مبنى السكن الداخلي لطلاب الابتدائية، لمدرسة مرقاة العلوم، مئو)

وللمرقاة أعلى الله شأنها، مستويات ومراحل، تبدأ من الابتدائية الى الثانوية، وعدد طلابها قرابة الأربعمائة، كثيرون منهم في السكن الداخلي، ولها مسجدها الخاص بها، وتقام في الجمعة والجماعات. والخطيب فيها الشيخ محمد أنور الأعظمي، حفيد الإمام المحدث. وبها مكتبة عامرة، ولها أساتذة فضلاء، أكثرهم من تلامذة المحدث المؤسس، زادهم الله من فضله. وللمدرسة مبنيان، متصلان ببعضها البعض.

مكتبة المحدث الإمام:
وبالقرب من المدرسة، تطالع الزائر دار معمورة، بالنور والفضل مغمورة، هي دار الشيخ الإمام، وبها مكتبته الخاصة، التي اعتنى بها أبناؤه، وشادوها على أحسن طراز، ونظموها على أحسن نظام، وزودوها بكل ما يحتاجه الباحث والزائر، مما تقر به عين كل ناظر.




وفي فناء المكتبة المشهودة، ضريح الشيخ الإمام، وتلميذه المبارك الذي لزم صحبته طيلة سبعين من الأعوام، وهذا شيء من النوادر، يخبر عن عظمة تلك النفوس الطواهر، ويذكرنا بأهل السلف أولي المفاخر والمآثر. وذلك التلميذ هو الشيخ الفقيه المسند المعقولي المنقولي عبدالجبار المئوي، المتوفى بعد شيخه باقل من سنتين، وليس بينهما في العمر إلا مثل ذلك .. فاعتبر بوصف التلميذ، تعرف قدر الشيخ!.





ثم عن أي فضل من أفضال أهلها أتحدث، لقد ألجموا لساني، وأوثقوا بناني، فاستحقوا مني أن أصفهم بأهلي وإخواني، وخلاصة خلاني .. سيما منهم، العلامة الفقيه، المؤرخ النبيه، الدكتور مسعود أحمد الأعظمي، سبط مولانا الإمام المحدث، وأحد أجلاء الآخذين عنه، وهو منقطع للتأليف والتحقيق، وقد أتم للتو تحقيق (مسند الحارث بن أبي أسامة) عن نسخة عتيقة وجدها ضمن مقتنيات جده الشيخ الإمام، عدا ما له من إشراف على مجلة (المآثر)، والتدريس، ومتابعة ترجمة مؤلفات جده من الأردية إلى العربية، والكتاب الذي صدر في مجلدين ويحوي ترجمة الشيخ الإمام، وعنوانه (حياة أبي المآثر).

وغير ذلك من جلائل الأعمال:
قوم هموهم بالله قد علقت ** فما لهم همم تسمو إلى أحد 
فمطلب القوم مولاهم وسيدهم ** يا حسن مطلبهم للواحد الأحد
ما إن تنازعهم دنيا ولا شرف ** من المطاعم واللذات والولد
ولا للبس ثياب فائق أنق ** ولا لروح سرور حل في البلد
إلا مسارعة في إثر منزلة ** قد قارب الخطو فيها باعد الأبد

وقد تكرم علي، فصحبني إلى دار المصنفين بأعظم كره، وزيارة مدرسة شيخ الإسلام بقرية شيخوبور، المنسوبة إلى شيخ العرب والعجم، مولانا حسين أحمد مدني (ت 1377هـ) رحمه الله. ولهذا حديث آخر.


ولن أطيل .. فما في الصدر لن يحويه السطر .. والحديث إذا طال أنسى آخره أوله، أرجو أن أكون بهذا قد أديت بعض واجبي أولئك الأهل الكرام، عن نزيلهم الذي أخجله منهم ذلك الإكرام، عمر الله الدور بأهلها من كل ذي قلب طاهر طيب، ولا أخلى تلك المرابع من غيث وابله الصيب، فهنيئا لكم يا أهل مئو ما أنتم عليه من الإكرام والإنعام، ورزقكم رضاه وجنبنا وإياكم خوف الحساب يوم القيام، وعليكم من صميم قلبي، خالص التحية والسلام.



هناك تعليقان (2):

  1. بارك الله فيكم وكثر الله من امثالكم وجزاكم الله خيرا على هذا المعلومات

    ردحذف