كلمة فخامة السلطان / علي عبدالكريم العبدلي(*)
(خاتمة سلاطين لحج العبادل)
لكتابي عن الأستاذ أحمد عمر بافقيه رحمه الله
(1)
لقد اطلعتُ على هذا المؤلَّفِ الرَّائِع، وهو ترجمةٌ لحياةِ صديقٍ حميم، ومن أعزِّ الأصدقاء الذين زاملتهم، وقد دامت زمالتنا هذه نيِّفا وخَمسين عاما، ما وجدتُ فيها منه إلا الإخلاصَ والمودةَ والأمانةَ والصدقَ، والإيمانَ العميق بالمبادئ والمعتقدات التي اعتنقها، والتي عانى فيها الكثيرَ من الجهد واحتمالِ المكَاره النفسيةِ والجسمانية، من: تهديدات، ووعيد، ونفي، وهجرةٍ متكررة، ومع كل هذا؛ لم يكن لينثنيَ أو يلينَ، بل ظل صابراً مثابرا، ومناضلا من أجلها.
على أنني أود أن أنوه عن إعجابي الشديد بغزارة اطلاع المؤلف، واقتداره في اقتناص المعلومات وجمع الوثائق، والبحث الحثيث للحصول عليها، مع أمانة في النقل والتوثيق، مثله في ذلك مثل خبير الجواهر الذي ينتقي الأحجار الكريمة فيختار منها أصدق أنواعها وأجودها، والشخص موضوع هذا الكتاب يدل على حسن الاختيار، فقد اختار المحرر أن يقدم لنا تاريخ جوهر فريد من الجواهر، اختاره عن دراية ومعرفة، مما اطلع عليه من سير الرجال وتاريخهم وسلوكهم.
(2)
لقد عرفت صاحب هذه السيرة معرفة وثيقة طوال زمالة أربع وخمسين سنة، فعرفت فيه الإخلاص، والمثابرة، وغزارة المعلومات، والصبر على المكاره واحتمالها، فقد كان إيمانه بقوميته العربية واضحا مما اختاره عند أول اختبار له (في هجرته الأولى إلى سنغافورا)، فقد اختار اسما لجريدته التي أصدرها هناك، فسماها (العرب)، تأكيدا لانتمائه، وإبرازا لقومه هناك، ونصرة لقوميته التي آمن بها.
وأذكر فيما أذكر: أننا لما كنا في القاهرة بعد نفي الإنجليز لنا، أننا زرنا الحاج أمين الحسيني القائد والزعيم الفلسطيني الذائع الصيت، مفتي فلسطين، فلما قدمت إليه الأخ أحمد عمر بافقيه تذكره فورا، وقال: ألست أنت من كان يصدر "صحيفة العرب" في سنغافورا؟ لقد كنت أقرؤها كثيرا، وأقرأ دفاعك عن قضية فلسطين، وكانت في وقتها معلومة جديدة لي، رغم زمالتنا في العمل الوطني، ودليلا على عدم اهتمام زميلنا طيب السيرة على التفاخر بما عمل أمام الناس.
(3)
وأما صبره على المكاره؛ فقد تحمل السجن ثلاث مرات، مرة على عهد الهولنديين في إندونيسيا، ومرة على الاحتلال الياباني في تلك البلاد، ومرة ثالثة عندما عاد إلى وطنه مسقط رأسه حضرموت، وفي كل المرات لم يتزعزع، ولم ينحرف عما آمن به، فقد كانت الحرية هي هدفه الأسمى.
لكنه بعد هذه السجون اكتسب غريزة عدم الاستسلام، وعدم العودة إلى السجون مهما كان الأمر، فحين حاول الاستعمار اعتقال زعيم الرابطة السيد محمد علي الجفري، فاعتقل أخوه السيد عبدالله علي، واحتل الجيش البريطاني سلطنة لحج، آثر زميلنا صاحب السيرة عدم تسليم نفسه حين بلغه نية الاحتلال البريطاني اعتقاله، فشد الرحال متجها إلى تعز، وقد جاء ليخبرني بما عق النية عليه، واستعان بي لتدبير أمور سفره في هجرته إلى تعز، والتي رافقه فيها الزميل قحطان الشعبي، وقد استعنت بكوادر الرابطة في لحج لترتيب أمور الرحلة، والتي تمت بكل سرية وكفاءة.
(4)
لكن الأمور في تعز لم تناسبه هناك، حيث إنه تعود على أن يعيش في بلاد تتحكم فيها قوانين وأنظمة وضوابط لم يجدها متوفرة له في تعز، فهاجر هجرته الثالثة إلى القاهرة، حيث كان للرابطة مكتب يتولى شئونها السياسية، وشئون بعثاتها الطلابية والإعلامية، فتولى شئون الإعلام فيه، وأصدر نشرة إعلامية، وكانت تصدر حسب ورود المعلومات من مناطق الجنوب، كما تولى نشر البيانات الرابطية.
وساهم في إلقاء الأحاديث من ركن الخليج والجنوب، الذي يذاع من إذاعة صوت العرب، وشارك في الاجتماعات والندوات الرابطية، وكذلك في الندوات والمؤتمرات العربية التي تدعى إليها الرابطة في مصر أو غيرها من الأقطار العربية أو غير العربية.
وهكذا ؛ قضى حياته: مناضلا، مؤمنا، صادقا، دءوبا، يكره التضليل، وينفر من الدعايات الكاذبة، والدعوات المزيفة.
صورة للسلطان علي أثناء زيارة بينية قام بها الى سيئون عاصمة الدولة الكثيرية في الخمسينات الميلادية |
(5)
وأذكر فيما أذكر، عن صدق أخوته، وعدم التفريط في إخوانه وحزبه وقومه تحت أسوأ الظروف، وفي كل الظروف: أنه في أحد اجتماعات مكتب الجنوب العربي في القاهرة، اشتد النقاش –وبالأخص بيني وبينه- حول نقطة خلاف، فارتفع الصوت، واشتد الجدل بيننا، حتى كاد يخرج عن قواعد التفاهم الأخوي والنقاش، ثم هدأ عندما انفض الأمر.
وعدت إلى بيتي وأنا أشعر بالندم والخزي إذ سمحت لنفسي أن أتدحرج إلى مستويات لا تليق بنا الاثنين، فقررت أن أتجه إليه في منزله للاعتذار عما بدر مني، فاستقليت سيارتي، وبادرت بالذهاب إليه على وجه السرعة، خوفا من أن تراوده الوساوس، وتأخذ الأمور بيننا مأخذ الخصومة.
وحين وصلت إلى منزله وجدته يتهيأ للتوجه إلى منزلي، وعنده نفس الشعور بوجوب الاعتذار والندم، والإحساس بالذنب، وتحميل نفسه الخطأ، فتقابلنا وتعانقنا، وتبادلنا الاعتذار، تسبقنا دموعنا على الخدين!
هكذا كان رحمه الله، وهكذا تكون الأخوة والأخرق الكريمة، ولو تركت لقلمي العنان لانساب يسجل ويسطر عن مكارم الأخلاق التي عاش بها والتزمها زميلنا الكريم إلى ما لا نهاية، لكنني أود أن أترك المجال للمحرر البارع الذي تجشم الكثير، وبذل الكثير من وقته الأكثر، لينشر وينثر عبير هذه السيرة العاطرة على الملأ.
السلطان علي (يسار الصورة) في منزل الأستاذ بافقيه رحمه الله يعوده في مرضه الذي توفي فيه |
(6)
وأما هجرته الرابعة والأخيرة؛ فقد كانت إلى مدينة جدة، وذلك عندما اتجهت الأمور في وطنه بعد الاستقلال نحو التدهور والانحدار، والديكتاتورية، والإرهاب الحكومي، والبطش الأعمى، مما لا يتناسب وأجواء الحرية الديمقراطية التي كان يتصورها وينشدها لبلاده في ظل الاستقلال.
وبعد رحيل الاستعمار، ظل قلما مُصْلَتا ومسلَّطاً على ذلك الوضع من جدة، التي كانت الملاذ الآمن لكثير من القوى والجماعات والخلطاء، حتى صعب التمييز بين الغث والسمين، والصادقين والمدعين .
ولكن ! وبعد سقوط الأحكام الشمولية عالميا ومحليا، كان زميلنا قد بلغ نهاية مشوار العمر، فتوفاه الله في جدة، تاركا لنا عاطر الذكرى، والحسرة على فقدان المكارم، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه، ورضي عنه وأرضاه.
السلطان / علي عبدالكريم العبدلي
جدة في : 5 / 12/ 1427هـ
الهوامش:
(*) السلطان علي بن عبدالكريم بن فضل العبدلي، آخر سلاطين منطقة لحج الواقعة بقرب مدينة عدن، جنوب اليمن، والتي كانت تعرف بالمحمية الغربية في عهد الاستعمار البريطاني، تبعد لحج عن عدن مسافة (24 ميلا) إلى الشمال الغربي. ولد في أكتوبر 1922م (= صفر 1340هـ)، تخرج من كلية الملكة فكتوريا (كلية الأمراء) بالقاهرة، وكان متفوقا في دراسته، تولى الحكم في لحج سنة 1952م (= 1372هـ)، وهو السلطان الخامس عشر من سلاطين لحج العبادلة، وظل في الحكم إلى أن نفاه الإنجليز من بلاده وسحبوا الاعتراف به في يوليو 1958م (= ذو الحجة 1377هـ)، يسكن حاليا مدينة جدة، وينتقل إلى القاهرة في كل صيف.