أصداء طباعة تاريخ ابن حسان (1)
إجابات محمد باذيب على ملاحظات م. ماهر بن حبراس
الحمدلله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول
الله، وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد؛
فإن الحراك العلمي والنقدي أمر مهم، وهو علامة
على حيوية المجتمع، وانتباه بعض أفراده ومتابعتهم للمجريات والمستجدات، وهذا ما
بدأت ألمسه من بعض الرسائل التي وصلتني مباشرة أو بواسطة تحمل في طياتها ملاحظات من
إخوة كرام اطلعوا على (تاريخ ابن حسان) الذي صدر مؤخراً بتحقيقي، فلكل من لاحظ
ونقد واطلع وقرأ الشكر والتقدير، والقصد كل القصد هو خدمة التراث وإخراج النصوص
على وجه سليم، والخطأ طبيعة البشر، كما قال القائل:
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
ذاك محمد الذي عليه جبريل هبط
فمن ذلك، رسالة بتاريخ 11 ذي القعدة 1446 = 9
مايو 2025م، وصلتني من الأخ الكريم المهندس ماهر حبراس بن شيبان التميمي، وفقه
الله، تشتمل على ثلاث ملاحظات على مواضع من تعليقاتي على (تاريخ ابن حسان)، بعث لي
بها عبر الواتس، في محادثة خاصة، وجرى بيني وبينه حوار وتعارف، لمدة ساعة تقريباً
بعد صلاة الجمعة، وافترقنا بعد أن أجبته عن ملاحظاته.
وقد عدت إلى الإجابات التي كنت كتبتها بعجل في الواتس، فحررتها وأشبعت الكلام فيها، ثم دار حوار عقب نشر هذا المقال وتواصل معي الأخ م. ماهر، وسوف أورد تعقيبه الأخير في نهاية المنشور. والله الموفق.
(1)
الملاحظة الأولى
على قول ابن حسان في (التاريخ:
2/ 461) في حادثة جرت في سنة 789: (ونهب أباعر وعبيد و{اصاري الصيف}). قال م. ماهر: (وقد علّق المحقق في الهامش بأن هذه العبارة
غير مفهومة، واجتهد في تأويلها حتى خلص إلى أن "الصيف" تعني جمع "صيفة".
وهذا التفسير بعيد عن الدقة، فـ"الصيف" هنا هو محصول فصل الصيف المعروف لدى
أهل حضرموت، ولا يحتاج إلى تأويل لغوي خارج عن السياق . أما "اصاري" فهي
جمع "إلاصرى"، من "وصر"، وهو الموضع الذي تُجمع فيه الحبوب والمحاصيل.
وقد سبقه إلى هذا التفسير المحقق الحبشي في تحقيقه لكتاب شنبل، غير أن باذيب لم يطّلع
– على ما يبدو – على ذلك التوضيح، ما أوقعه في تأويل مرهق للنص).
* أقول (باذيب):
عجيب أن يفترض الملاحظ عدم اطلاعي على (تاريخ شنبل)
وتعليقاتي في طول الكتاب وعرضه مترعة ومشحونة بالعزو إلى طبعتيه، الأولى التي
طبعها الشيخ محفوظ شماخ الشبامي، والثانية الصادرة عن مكتبة الإرشاد بصنعاء. وتعليق
الأستاذ الحبشي حفظه الله قرأته واطلعت عليه، وعزوت الموضع الذي ورد عند ابن حسان
بمثيله في (تاريخ شنبل) في الحاشية رقم 4 من الصفحة التي أحال عليها الأخ الملاحظ،
فكيف تجاهل عزوي إلى طبعتي شنبل، ويتسور عليّ بأني لم أطلع، إن هذا لأمر عجيب!
قلت في تعليقي (حاشية رقم 5، 2/ 461): (و(أصَاري)
لعله شيء تحفظ فيه الصيفة)، اهـ. وشرح الأستاذ للأصاري على أنها جمع وصَر (وهو: مخزن
الحبوب في لهجة أهل دوعن)، هو اجتهاد منه، ولم أجد تفسيرها وشرحها عند غيره من
المتقدمين، فهو اجتهد في شرحها، وأنا كذلك اجتهدت وسألت بعض الباحثين الأكاديميين
من أهل الريدة، والتعليقات والاجتهادات تكمل بعضها.
أما ما ذهب إليه الأخ الملاحظ من أن لفظة (الصيف)
تعني: محصول فصل الصيف، فهذا اجتهاد منه، وقد يكون مصيباً، لكنه لم يعضد كلامه
بنقل، فمادام أنه يفسر باجتهاده ورأيه، فلماذا يحجر على غيره أن يجتهد مثله؟ فأنا
اجتهدت وسألت بعض أهل الريدة وتباحثت معهم للوصول إلى معنى (أصاري الصيف) فوصلنا إلى
معنى مقارب، وهو أن (الصيف) جمع (صيفة) وهي زيت كبد الحوت الذي تشتهر به الريدة
والسواحل الشرقية لحضرموت من أزمان قديمة. وهذا التفسير معقول جداً، وقريب من الواقع،
لا فيه إرهاق، ولا رهق. فلعل الأخ الملاحظ يرهق نفسه قليلاً فيبحث عن نص مماثل لنص
ابن حسان يوافق اجتهاده وتفسيره، ليستفيد ويفيد غيره. ونحن بالانتظار.
(2)
الملاحظة الثانية
عند قول المؤرخ ابن حسان
(المرجع السابق نفسه): (مائة فارس أكثرهم من الجحافل، ورجل ورماه، نهبوها ..)،
الخ. كنت علقت على (رجل ورماة) بقولي (الحاشية 7): (كذا في الأصل، ولعله اسم موضع،
وتحرفت الكلمة على الناسخ. أما (رماه) فهي موضع للمناهيل .. الخ).
لاحظ الأخ الكريم أن التعليق لا يستقيم، وأن ذهابي
إلى تعريف (رماه) بما ذكرت ليس في محله، وأن المقصود: (معناها العسكري، تدل على المشاة والرماة).
أقول: (باذيب):
لقد سبقه بالملاحظة أخونا العزيز الشيخ الباحث سالم محمد باعباد في
محادثة سابقة بتاريخ 12 شوال. فهي ملاحظة في محلها. ولهم الشكر على التصويب. والذي
جعلني أذهب إلى تعريف (رماه) عدم تعيين ابن حسان (الوادي) الذي دخله ابن بوز
وعسكره في تلك السنة (789)، فأفادني الشيخ سالم باعباد: أن الوادي المقصود بالذكر
هو وادي بلحاف، فبهذا يتضح الأمر، ويكون تعريفي لقرية (رماه) في غير موضعه،
والصواب: رُجّل ورماةٌ. كما ذكر الأخوان الكريمان.
(3)
الملاحظة الثالثة
على قول المؤرخ ابن حسان (التاريخ: 2/ 465): (وتقدموا إلى الغياض، قتلوا
سبعة من رتبة حمم، ووصلوا إلى حروحر، ووصل بعضهم إلى مطلع حرو ورجعوا)، الخ.
ذهب
الأخ الملاحظ إلى تخطئة كلمة (حروحر) كما رسمت في المطبوعة، بحاءين مهملتين ورائين
يتوسطهما واو، وقال: إنه اطلع على المخطوط وأن الكلمة على الصواب هي (حزحز) أي:
بحاءين وزايين. وكذلك يرى خطأ كلمة (حرو) وأن الصواب (خرد).
أقول (باذيب):
إن مخطوطة (تاريخ ابن حسان) خلت في كثير من صفحاتها عن التنقيط، ورسم
الكلمات متقارب، وما قرأه الأخ الملاحظ ورآه صواباً قرأت خلافه ورأيته صواباً. وكلمة
(حرو) و(خرد) متقاربتان في الرسم، وكلاهما موضعان في ساحل حضرموت، فحرو بقرب غيل بن يمين ضمن مثاوي الحموم، ووادي خرد بقرب الشحر. كما في (الشامل: ص
471، 479).
ورسم
(حروحر) ورد في المخطوط بحاءين مهملتين، وكذلك الراءان في الأصل مهملتان ثم نقطتا
لاحقاً بدلالة ضعف مداد النقط عن مداد الحروف الأصلية، ويظهر ذلك لمن تأمل،
وبينهما واو صغيرة أيضاً أضيفت لاحقاً لأنها مقحمة بشكل واضح (ينظر الصورة المرفقة
للكلمة المأخوذة عن المخطوط).
ولم أجد في المراجع التي بين يدي ذكراً لـ(حروحر)، ولا لـ(حزوحز)، ولا لـ(حزحز)، ففضلت أن أرسمها كما قرأتها، ولا أفسرها. نعم، فاتني أن أضع صورة الكلمة في الحاشية ليطلع عليها القراء، كما فعلت في مواضع أخرى أشكلت عليّ، فهاهي صورة الكلمة بين يدي قراء هذا المنشور.
وأفاد
الأخ الملاحظ أن كلمة (حزحز) بحاءين وزايين، وردت في كتاب (أعمال الدولة المؤيدية)
ولا اعرف كتاباً يحمل هذا العنوان، إلا إذا كان يقصد كتاب (ارتفاع الدولة المؤيدية)
المشتمل على ذكر الجباية المرفوعة من نواحي بلاد اليمن في عهد الملك المؤيد داود
بن يوسف الرسولي سنة 721، الصادر سنة 2008 عن المعهد الفرنسي بتحقيق د محمد
عبدالرحيم جازم، وهي معلومة يشكر عليها، وهذا يدل على سعة اطلاعه ودقته وحسن نظره.
على أن هذا الكتاب، أعني (ارتفاع الدولة المؤيدية) يدعم تفسيري لعبارة (أصاري الصيف)، ففيه معلومات قيمة عن (الصيفة) واستخراجها وحجم التجارة والناتج المحلي منها، إلى غير ذلك (ينظر: ص 130 وما بعدها). وفيما يلي أضع صورة النص المشتمل على ذكر (الصيفة):
ختاماً،
هذا جوابي عن ملاحظات أخينا المهندس ماهر حبراس بن شيبان، وفقه الله، وقد ختم
ملاحظاته قائلا: (هذه الأمثلة تشير إلى أن
التحقيق، رغم ما فيه من جهد مشكور، يحتاج إلى مزيد من العناية بمفردات البيئة الحضرمية)،
الخ، فشكراً له على تقدير الجهد، وأقول له: كم ترك الأول للآخر، والمؤمن كثير بأخيه،
ورحم الله من قرأ فاستفاد، أو نقد فأجاد، وعلى الله التكلان، وهو المستعان.
والسلام
كتبه
محمد باذيب
مساء
الاثنين 14 ذي القعدة 1446
= 12
مايو 2025
تعقيب على المقال السابق
راسلني الأخ الملاحظ وفقه الله، وأكد لي أنه لم ينشر ملاحظاته في أي مجموعة، وإنما خصني بها، ثم أرسل لي تعقيبه على كلامي، وأوضح فيه أن (حزحز) بالحاءين والزايين لم ترد في أصل كتاب (ارتفاع الدولة المؤيدية) وإنما في تعليق المحقق د. محمد عبدالرحيم جازم، ومصدره في ذلك إفادة من المرحوم الأستاذ عبدالرحمن الملاحي. فاتضح الأمر جلياً.
ويبدو أن (حزحز) لم يكن معروفاً لناسخ المخطوطة، فاضطرب في كتابته، ولأنه واد غير مشتهر، فلم يرد ذكره في كتب التاريخ العامة وكتب البلدان المواضع الحضرمية، مما أدى بي الى إثباتها (حروحر) .. وقد اتضح الصواب، والحمدلله.
وهذه صورة الهامش (رقم 2، ص 131) من تعليقات د. جازم:
ثم عقب بتأكيد رأيه بأن كلمة (حرو) المذكورة في السياق نفسه الذي ذكرت فيه (حزحز، أو: حروحر كما في المطبوعة) إنما هي (خرد) والمقصود بها: وادي خرد القريب من الشحر، وهو من مثاوي قبيلة الحموم.
نحن
بحاجة إلى وعي أرقى، نُميّز فيه بين الرأي والموقف، ونُمارس فيه النقد لا بهدف
الإقصاء بل بهدف التصحيح والتكميل، ونتحدث عن التاريخ بإنصاف لا بعين الطائفة أو
الحزب بل بعين الحقيقة والعدل. الاختلاف سنّة، لكن الاحترام والإنصاف واجب. تحياتي
لك"، انتهى كلامه.
ولك
تحياتي أيها الصديق الكريم، ولك خالص شكري على التصويب والانتباه، وعلى رقيهك
في النقد وموضوعيتك التامة في الطرح.
كما
أقدم شكري لكافة القراء الكرام، فلهم وافر التحية والتقدير على اهتمامهم ومتابعتهم
لما يستجد من مطبوعات ومنشورات تتعلق بتاريخ المنطقة، وكما قلت سابقا، فالقصد
والغرض من التحقيق ونشر النصوص إنما هو خدمة تراث المنطقة وإخراجه من حيز المخطوط
الى عالم المطبوع، وبذل الجهد في التدقيق والتصحيح، وإن حصل خطأ غير مقصود فهذا
راجع الى القصور البشري، ولاشك أن الناقد بصير، ووجود الناقدين أمر يبعث على
الطمأنينة والسرور، فالحمدلله على ذلك.
محمد باذيب