الأحد، 29 ديسمبر 2013

توبة الشوكاني - الحلقة الثالثة


توبَةُ الشَّوكَانيِّ
قال القاضي أحمد ابن العلامة القاضي محمد بن علي الشوكاني، فيما حرَّره ونقله عن أبيه، في نسخة كانت في حوزة تلميذه المحدث الشيخ حسين بن محسن الأنصاري اليماني، نزيل الهند ودفين بهوبال، وقوبلت على أصلها بحضوره:
يا فتاح
«وهذه الرسالة التي كتبها سيدي الوالد المرحوم، بعد تأليف الرسالة الأولى بأربعين سنة، وأولها: سؤال عن التصوُّفِ، هل عليه دليلٌ؟ وهل العلمُ علمانِ: باطنٌ, وظاهِرٌ، والباطنُ يسَمُّونه طريقةً؟!.
فأجاب رحمه الله بقوله:
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الحافظ الإمام، والقدوة الهمام، شيخ الإسلام، القاضي محمد بن علي الشوكاني، رحمه الله تعالى:
اعلم وفقني الله وإياك، أن معنى التصوف المحمود: هو الزهد في الدنيا، حتى يستوي عنده ذهبها وترابها. ثم الزهد فيما يصدر عن الناس من المدح والذم، حتى يستوي عنده مدحهم وذمهم، ثم الاشتغال بذكر الله، وبالعبادة المقربة إليه، فمن كان هكذا، فهو الصوفي حقاً، وعند ذلك يكون من أطباء القلوب، فيداويها بما يمحو عنها الطواغيت الباطنة، من الكبر والحسد والعجب والرياء، وأمثال هذه الغرائز الشيطانية، التي يصير بها قلبه وحواسه في ظلمة، بل يصير بها جميع ظاهره وباطنه في غشاوة، صار حينئذ صافياً عن شوب الكدر، مطهراً عن دنس الذنوب، فيبصر ويسمع ويفهم بحواس لا يحجبها عن حقائق الحق حاجب، ولا يحول بينها وبين درك الصواب حائل.
ويدل على ذلك أتمَّ دلالةٍ وأعظمَ برهانٍ، ما ثبتَ في «صحيح البخاري» وغيره، من حديث [2/أ] أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة»، وفي رواية: «فقد آذنته بالحرب»، «وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه».
ومعلومٌ أن من كان يبصر بالله سبحانه، ويسمع به، ويبطش به، ويمشي به، له حال تخالف حال من لم يكن كذلك، لأنها انكشفت له الأمور كما هي، وهذا هو سبب ما يحكى عنهم من المكاشفة، لأنه قد ارتفعت عنهم حجب الذنوب، وذهبت عنهم أدران المعاصي، وغيرهم ممن لا يبصر بالله، ولا يسمع به، ولا يبطش به، ولا يمشي به، لا يدرك من ذلك شيئاً، بل هو محجوب عن الحقائق، غير مهتدٍ إلى مستقيم الطرائق، كما قال الشاعر:
وكَيف ترَى ليلَى بعينٍ ترَى بِها ** سِواهَا وما طهَّرْتَها بالمدامعِ
وتلتذُّ منها بالحديثِ وقدْ جرَى ** حديثُ سِوَاها في خرُوقِ المسَامعِ
أُجِلُّكِ يا ليلى عن العين إنما ** اراك بقلب خاشع لك خاضع
وأما من صفَا عن الكدَرِ، وسمِعَ وأبصَر، فهو كما قال الآخر:
ألا إنَّ وادي الجزْعِ أضْحَى ترابُه ** من المسْكِ كافوراً وأعوادُه ندَّا [2/ب]
ومَا ذاكَ إلا أن هنداً عشِيةً ** تمشَّتْ فجرَّتْ في جوانبِه بُرْدَا
* *  *
ومما يدل على هذا المعنى الذي أفاده حديث أبي هريرة: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»، وهو حديث صححه الترمذي، فإنه أفاد أن المؤمن من عباد الله يبصر بنور الله، وهو معنى ما في الحديث الأول من قوله صلى الله عليه وسلم: «فبي يبصر». فما وقع من هؤلاء القوم الصالحين من المكاشفات فهو من هذه الحيثية الواردة في الشريعة المطهرة.
وقد ثبت في «الصحيح» عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ في هذه الأمةِ محدثين وإن منهم عمر»، ففي هذا الحديث الصحيح فتح باب المكاشفة لصالحي عبادالله، وأن ذلك من الله سبحانه، فيحدثون بالوقائع بنور الإيمان الذي هو من نور الله سبحانه، فيعرفونها كما هي، حتى كأن محدثا يحدثهم بها، ويخبرهم بمضمونها.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقع له من ذلك الكثير الطيب، في وقائع معروفة منقولة في دواوين الإسلام. ونزل بتصديق ما تكلم به القرآن الكليم، كقوله عز وجل: {ما كان لنبيٍّ أن يكُونَ له أسْرَى حتَّى يُثْخِنَ في الأرْضِ}[]، وقوله سبحانه: {ولا تصَلِّ على أحدٍ منهُم ماتَ أبداً ولا تَقُمْ على قبره}، وقوله: {سواءً عليهِمْ أستغْفَرْتَ لهم أم لم تستغفِرْ لهم فلَنْ يغْفِرَ الله لهم}.
فمن كان من صالحي العباد، متصفاً بهذه الصفات، متسماً بهذه السمات، فهو رجل العالم، وفرد الدهر، وزين العصر، والاتصال به مما تلين به القلوب، وتخشع به الأفئدة، وتنجذب بالاتصال به العقول الصحيحة، إلى مراضي [3/أ] الرب سبحانه، وكلماته هي الترياق المجرب، وإشاراته هي طب القلوب القاسية، وتعليماته هي كيمياء السعادة، وإرشاداته هي الموصلة إلى الخير الأكبر، والكرامات الدائمة التي لا نفاد لها، ولا انقطاع.
* *  *
ولم تصْفُ البصائر، ولا صَلُحَت السرائرُ، بمثل الاتصَالِ بهؤلاء القوم، الذين هم خيرَةُ الخيرَة، وأشرَفُ الذَّخيرة، فيالله من قوم لهم السلطان الأكبر على قلوب هذا العالم، يجذبونها إلى طاعة الله سبحانه، والإخلاص له، والاتكال عليه، والقرب منه، والبُعدِ عما يشغل عنه، ويقطع عن الوصول إليه، وقل أن يتصل بهم ويختلط بخيارهم إلا من سبقت له السعادة، وجذبته العناية الربانية إليهم، لأنهم يخفون أنفسهم، ويظهرون في مظاهر الخمول، ومن عرفهم لم يدل عليهم، إلا من أذن الله له، ولسان حاله يقول كما قال:
وكَمْ سائلٍ عَن سَير ليلَى ردَدتُهُ ** بعَمْياءَ عن ليْلَى بعينِ يَقينِ
يقُولونَ خبَّرنا فأنتَ أمينُها ** ومَا أنا إنْ خبَّرتُهم بأمينِ
* *  *
فياطالب الخير، إذا ظفرت يداك بواحد من هؤلاء الذين هم صفوة الصفوة، وخيرة الخيرة، فاشددهما عليه، واجعله مؤثرا على الأهل والمال، والقريب والحبيب، والوطن والسكن، فإنا إن وزنا هؤلاء بميزان الشرع، واعتبرناهم بمعيار الدين، وجدناهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وقلنا لمعاديهم، أو القادح في علي مقامهم: أنت ممن قال فيه الرب سبحانه، كما حكاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة». أو: «قد آذنته بالحرب». لأنه لا عيب لهم إلا أنهم أطاعوا الله كما يجب، وآمنوا به كما يحب، ورفضوا الدنيا الدنية، وأقبلوا على اله عز وجل في سرهم وجهرهم، وظاهرهم وباطنهم [3/ب].
* *  *
وإذا فرضنا أن في المدعين للتصوف من لم يكن بهذه الصفات، وعلى هذا الهدي القويم، فإن بدا منه ما يخالف الشريعة المظهرة، وينافي منهجها الذي هو الكتاب والسنة، فليس من هؤلاء، والواجب علينا رد بدعته عليه، والضرب بها في وجهه، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد»، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل بدعة ضلالة».
ومن أنكر علينا ذلك، قلنا له: وزنا هذا بميزان الشرع فوجدناه مخالفاً له، ورددنا أمره إلى الكتاب والسنة فوجدناه مخالفاً لهما، وليس الدين إلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والخارج عنهما، المخالف لهما، ضال مضل، ولا يقدح على هؤلاء الأولياء وجود من هو هكذا، فإنه ليس معدودا منهم، ولا سالكاً طريقتهم، ولا مهديا بهديهم.
فاعرف هذا، فإن القدح في قومٍ بمجرد فرد أو أفرادٍ منسوبين إليهم نسبة غير مطابقة للواقع، لا تقع إلا ممن لا يعرف الشرع، ولا يهتدي بهديه، ولا يبصر بنوره.
* *  *
وعلى ذكرنا لحديث: «اتقوا فراسة المؤمن»، نذكر قصة متعلقة به، ذكرها من يوثق بنقله من أهل التاريخ، وهي:
أن الجنيد رحمه الله تعالى، أذن له شيخه رحمه الله أن يتكلم على الناس في جامع البلد الذي هو فيه، بعد صلاة الفجر، فاعتذر إليه بأنه غير فصيح العبارة، وغير صالح لذلك. فقال: لا عذر لك من ذلك.
وكان هذا دائر بينه وبينه في الليل، ولم يكن عندهما أحد، ولا خرج واحد منهما، فوقع التحدث في [4/أ] ذلك البلد، بأن الجنيد قد أذن له شيخه أن يتكلم على الناس بعد صلاة الفجر في الجامع، وارتجت المدينة بهذا الخبر، فلم تحضر صلاة الفجر إلا وقد صار الجامع ممتلئا من الناس، وهم مزدحمون فيه، لأنه قد وصل إليه من لم يكن معتاداً للصلاة فيه، شوقاً إلى كلام الجنيد، مع أنه لم يكن إذ ذاك في مرتبة الشيوخ، بل من جملة تلامذة شيخه، ولكن الأسرار الربانية تعمل عملها، والعمل الصالح لا يخفى.
فلما فرغ أهل الجامع من الصلاة، تهيأ الجنيد للكلام، وقد التف عليه الناس، حتى كأنهم على موعد لذلك، أو كأنه قد صاح بهم صائح بما دار بينه وبين شيخه تلك الليلة.
فقبل أن يتكلم الجنيد، بدره واحد من بين أولئك المستمعين، فقال: يا شيخ! ما معنى ثول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»؟. فأطرق الجنيد، ثم رفع رأسه، وقال: أسلم، فقد آن لك أن تسلم!.
فقعد بين يديه، وتكلم بالشهادتين، وذكر للجنيد ولذلك الجمع أنه من جملة النصارى الساكنين بذلك البلد، وأنه لما سمع الناس يتحدثون تلك الليلة بأن الجنيد سيتكلم في الجامع بعد صلاة الفجر، بقي مفكِّراً، وأدرك في قلبه ميلاً إلى الإسلام، وعزم على حضور ذلك الجمع، مريداً لاختبار الجنيد بهذا الحديث، مع كونه قد لبس لباس الإسلام، وقال في نفسه: إن كاشفني أسلمتُ!. فكاشفه الجنيدُ بما تقدم، وصار ذلك الرجل من خيار المسلمين.
فانظر هذا الكشف من مثل هذا الولي، واعرف به ما عند أفاضل هذه الطائفة من المواهب الربانية، واسأل ربك أن يجعل لك [4/ب] نصيباً مما أفاض عليهم من تفضلاته على عباده.
* *  *
اللهم يا رب العالم، ويا خالق الكل، يا مستو على عرشك، اجعل لنا نصيباً مما مننت به على هؤلاء الصالحين، وتفضلت به عليهم، فالأمر أمرك، والخير خيرك، ولا معطي غيرك.
وبالجملة؛ فمن اراد أن يعرف أولياء هذه الأمة، وصالحي المؤمنين، المتفضل عليهم بالفضل الذي لا يعدله فضل، والخير الذي لا يساويه خير، فليطالع له «الحلية» لأبي نعيم، و«صفوة الصفوة» لابن الجوزي، فإنهما تحريا ما صحَّ، وأودعاه كتابيهما، من مناقب الأولياء، المروية بالأسانيد الصحيحة، ما يجذب بعضه بضبع من يقف عليه إلى طريقتهم، والاقتداء بهم. وأقل الأحوال أن يعرف مقادير أولياء الله، وصالحي عباده، ويعلم أنهم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم، ولا يعني من تأسى بهم ومشى على طريقتهم، فإن ذلك منه بمجرده مترع من متارع الخير، ومهيع من مهايع الرشد، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنت مع من أحببت». فمحبة الصالحين قربة لا تهمل، وطاعة لا تضيع، وإن لم يعمل بعملهم، ولا جهد نفسه كجهدهم.
وفي هذا القدر كفاية، لمن له هداية، والحمدلله أولا وآخراً، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه الراشدين، آمين آمين آمين.
تم
بقلم غلام فقير الله، غفر الله له
في جمادى الأولى سنة 1322».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق