الخميس، 28 فبراير 2019

مطلَعُ الفَجْر على مَعْنى حَديثِ «لا تسبُّوا الدَّهْر» - بقلم/ د. محمد باذيب



مطلَعُ الفَجْر
على مَعْنى حَديثِ «لا تسبُّوا الدَّهْر»

بحثٌ مختصَر في معنى الحديثِ الصَّحيحِ في النَّهي عن سبِّ الدهْر
وحكم إنشاد الأشعَار التي فيها ذم للدهر وشكْوَى من صرُوفه وأحداثِه




بقلم
د. محمد أبوبكر باذيب









 f

الحمدلله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى. والصلاة والسلام على سيدنا محمد بدر الدجى، ومنار الاهتداء، وعلى آله وصحبه ومن بهم اقتدى.

مقدمة البحث

أما بعد؛
فإن حديثَ النهي عن سبِّ الدّهْر من الأحاديث الصحاح المتفق عليها من رواية أبي هريرة، رضي الله عنه. وقد وردت فيه روايتان شهيرتان:
الرواية الأولى: في حديث مرفوع، بضمير الغيبة «إن الله هو الدهر»، وذلك فيما أخرجه مالك في «الموطأ» [2/ 984، رقم 3] عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقل أحدكم: يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر».
وأخرجه من طريق أبي الزناد عن أبي هريرة: مسلم في «صحيحه» [7/ 45، رقم 6002]، والبخاري في «الأدب المفرد» [ص 269، رقم 769]، وأحمد في «مسنده» [15/ 57، رقم 9116]، وأبو عوانة في «مستخرجه» [17/ 200، رقم 9393، و9394]، وابن حبان في «صحيحه» [13/ 21، رقم 5713]، والطبراني في «الدعاء» [ص 563، رقم 2028] من طريق مالكٍ به. وفصَّل الطبراني القول: بأن رواية سعيد بن هاشم عن مالك بلفظ: «لا تسبوا الدهر»، ورواية القعنبي: «يا خيبة»، الحديث. وللطبراني طرق أخرى.
(2) ومن طريق الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: البخاري في (باب لا تسبوا الدهر) [8/ 51، رقم 6182]، بلفظ: «لا تسمُّوا العنبَ الكرْمَ. ولا تقولوا: خيبةَ الدّهرِ، فإن الله هو الدهر». (3) ومن طريق هشام الدستوائي، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: مسلم في «صحيحه» [4/ 1763، رقم 2246] بلفظ: «لا تسبوا»، الحديث. ومن طريق عبدالرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين [4/ 1763، رقم 2247] بلفظ: «لا يسب أحدكُم الدهرَ، فإن الله هو الدهرُ. ولا يقولنَّ أحدكُم للعنب: الكرمُ، فإن الكَرْمَ الرجلُ المسلم».
قال البغوي في «شرح السنة» [12/ 357]: «هذا حديثٌ متفق على صحَّته، أخرجَه مسلمٌ، عن قتيبة، عن المغيرة، عن أبي الزناد. وأخرجاه من أوجُه، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة». وقد تم بيان تلك الأوجه، والحمدلله.
الرواية الثانية: الحديث قدسي، بلفظ: «أنا الدَّهر». رواه أبو هريرة مرفوعاً، وله روايتان: (1) سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أخرجها البخاري في «صحيحه» (بابُ وما يهلكنا إلا الدهر♂) [6/ 166، رقم 4826] من طريق الزهري، بلفظ: «قال الله عز وجلَّ: يؤذيني ابنُ آدم، يسُبُّ الدهرَ، وأنا الدّهر، بيدي الأمرُ، أقلبُ الليل والنهار». وفي (باب قول الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله) [9/ 175، رقم 7491] باللفظ نفسه. وهو في «صحيح مسلم» [4/ 1762، رقم 2246] بلفظه دون زيادة (بيدي الأمر). وأخرجه أيضاً [4/ 1762، رقم 2246] من طريق عبدالرزاق عن معمر عن الزهري، به، بلفظ: «يؤذيني ابن آدمَ، يقولُ: يا خيبة الدهر. فلا يقولنَّ أحدُكم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر، أقلب ليلَه ونهاره، فإذا شئت قبضتهما». (2) أبو سلمة، عن أبي هريرة: أخرجها البخاري في (باب لا تسبوا الدهر) [8/ 51، رقم 6181] من طريق الزهري أيضاً، بلفظ: «قال الله: يسبُّ بنو آدم الدهرَ، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار».
وهناك طرقٌ أخرى، منها: (3) طريق ذكوان، عن أبي هريرة: أخرجها أحمد في «مسنده» [16/ 272] بلفظ: «أنا الدَّهر، الأيامُ والليالي لي، أجدِّدُها وأبليها، وآتي بملُوكٍ بعد ملُوك».
المتكلمون في الحديث:
فالحديثُ، كما رأينا، في أعلى درجات الصحة.
1- فقول ابن دريد (ت 321هـ) في «جمهرة اللغة» [2/ 641]: «وفي حديث سفيان بن عيينة، أحسبه مرفوعاً إن شاء الله تعالى، أن الله تبارك وتعالى قال: «تسبُّونَ الدهْر وأنا الدهرُ، أي أنا خالقُ الليل والنهار»، أو كما قالَ، والله أعلم»، انتهى.
أقول: حديثُ سفيان، أي رواية الحديث من طريق سفيان، بسنده إلى أبي هريرة؛ أخرجها البخاري في الموضع الأول الذي تقدم. وهي في «صحيح مسلم» أيضاً [7/ 45، رقم 6000]. فبانَ بهذا أن تردُّد ابن دريدٍ، رحمه الله، لا مسوِّغ له، فقد ثبتت صحة الحديث مرفوعاً من طريق سفيان عند الشيخينِ.
2- كما يتضح للقارئ الكريم أن قول الدكتور جواد علي (ت 1407هـ) في كتابه «المفصل» [11/ 150]: «وللحكْمِ على صحَّة نسبة الحديثين إلى الرسُول، أحيل القارئَ على الطرق التي وردَا بها، وإلى آراء العلماء فيهما! وأعتقد أنه إن فعلَ ذلك فسيجدُ في نسبتها إلى الرسُول بعضُ الشكِّ، إن لم أقل كلَّ الشكِّ!»، أنه قولٌ لا قيمة له في ميزان البحث العلمي المتجرد، القائم على إثبات الحقيقة العلمية كما هي، لا بناء على نظرة طائفية أو خلفية مسبقة، لأن الحديثَ صحيحٌ ثابتٌ، وعدم استيعابِ الدكتور لمعنى الحديث لا يضر شيئاً من ناحية ثبوته، وصحَّة معناه. وسوف تتم مناقشة أصل اعتراضِه فيما يأتي.
* أهم المباحث التي اشتمل عليها هذا المقال:
1.    أمثلة سب الدهر عند الجاهليين.
2.    الدهرُ في اللغة.
3.    توجيهُ السلف لمعنى سبِّ الدهرِ
5.    ضبط عبارة «وأنا الدَّهر» وأثرها على توجيه المعنى.
6.    في رد قول من قال: إنّ الدهْرَ من أسماء الله تعالى
8.    حكم من سبَّ الدهْر من المسلمين.
9.    خلاصة البحث.
* سبب كتابة هذا البحث:
من المفيد أن يعلم القارئ الكريم سبب اختياري هذا البحث، وهو أن عدداً من الفضلاء كانوا قد تواصلوا معي مراراً لإفادتهم بخلاصة الحكم في هذه المسألة، حيث إن كثيراً من المتحمسين للقضايا الدينية، المنكرين على الناس بغير علم، يلزمون من يسمعونه ينشد شيئاً من الأشعار التي تتضمن ذم الدهر، أو لومه، أو الشكاية من أحداثه؛ يلزمونهم بظاهر الحديث، وقد يكفرونهم بسبب ذلك، إن لم يكتفوا بسبتهم إلى البدعة.
ومن تلك الأشعار، عدد من قصائد الإمام الجليل عبدالله بن علوي الحدَّاد باعلوي الحسيني (ت 1132هـ)، رحمه الله، منها قوله:
هذا الزمانُ وهذا الدَّهرُ عادتُه


فينَا وفي غَيرنا بينٌ وأنكَادُ

إن الحوادِثَ لا تبْقِي على أحَدٍ


وللكَريم قناةٌ ليسَ تنْآدُ

وقوله:
وكنتُ بهم وافي الجناحَينِ ساكِنَ الـ


ـفُؤادِ وريحي إذْ تهبُّ نسيمُ

فأعْدَمني الدهرُ الخؤونُ وجودَهم


وما الدَّهْر إلا خائنٌ وظَلومُ

وغيرها من قصائد الشيوخ العارفين، والأدباء المجيدين، التي تنشد في المجالس والمناسبات الاجتماعية، ولكثرة تكرارها يحفظها الناس، ويستشهدون بأبياتها.
فمن هنا، كان التفرغ لجمع هذا البحث وتتبع كلام أهل العلم في المسألة، من المهمات، وقد جهدت في جمع النصوص، وتتبع مختلف المصنفات من شتى المذاهب، ومختلف الاتجاهات، وقمت بتحرير الأقوال، وجمع الأشباه والنظائر إلى بعضها البعض، وحاولت الاختصار ما استطعتُ، والله الموفق.

المبحث الأول

 أمثلة سب الدهر عند الجاهليين

قال ابن عبدالبر (ت 463هـ) في «التمهيد» [18/ 155]: «وقد نطق القرآن وصحت السنة بما ذكرنا»، يريد قوله تعالى: وما يهلكنا إلا الدهر. وفي السنة: يا خيبة الدهر. ومنه قول الجاهليين: أصابني الدهرُ في مالي بكَذا. و: نالتني قوارعُ الدهرِ وبوائقُه، ومصايبُه. ويقول الهرِمُ: حنَاني الدهرُ. و: أبادَنا الدهرُ. و: أتى علينا الدهْر. ومن هذا الباب أشعارُ كثيرٍ من الجاهليين. منها قول امرئ القيس:
ألا إن هذا الدهْر يوم وليلةٌ


وليسَ على شيء قويمٍ بمستَمرِ

وقال أيضاً:
أرجّي من صُروفِ الدّهر ليناً


ولم تغفَل عن الصّم الهضابُ

ومنها قول زهير بن أبي سلمَى في قصيدته التي مدح بها هرم بن سنان، مطلعها:
لمن الديار بقنة الحجْر


أقوينَ من حجَجٍ ومن دهْر

لعب الزمانُ بها وغيَّرها


بعدِي سوافي المور والقَطْر

وغيرها من الأشعار.

المبحث الثاني الدهر في اللغة

1- قال الخليل (ت 170هـ) [4/ 23]: «الدهر: الأبدُ الممدود. ورجلٌ دهريٌ: قديمٌ. والدهريُّ: الذي يقول ببقَاء الدهْر، ولا يؤمنُ بالآخرة. والدهرُ: النازلةُ. دهرهم أمرٌ، أي: نزل بهم مكروه. وقوله: «لا تسبّوا الدهرَ، فإن الله هو الدهرُ». يعني: ما أصابكَ من الدهر».
2- وقال أبوعبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) في «غريب الحديث» [1/ 355]: «قوله: «فإن الله هو الدهر»، هذا ممّا لا ينبغي لأحدٍ من أهل الإسلامِ أن يجهل وجْهَه، وذلكَ: أن أهل التّعطيل يحتجون به على المسلمين»، اهـ. وسيأتي تتمة كلامه.
3- وقال ابن دريد (ت 321هـ) في «جمهرته» [2/ 641]: «والدهر: معروفٌ. وقال قوم: الدهر مدة بقاء الدنيا من ابتدائها الى انقضائها وقال آخرون: بل دهر كل قوم زمانهم».
قال: «وفي الحديث: «لا تسبوا الدهْرَ، فإن الله هو الدهر». وهذا يجبُ على أهل التوحيد معرفته، لأنها حجةٌ يحتج بها من قال بالدّهْر. وتفسير هذه الكلمة، والله أعلم: أن الرجُلَ من العرَب في الجاهلية، كان إذا أصيبَ بمصيبة، أو رُزئَ مالاً، أغريَ بذمِّ الدهر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الدهر»، فإن الذي يفعل بكُم هذا هو الله، جل ثناؤه، وهو فعله لا فعلَ الدهر. فالدهْر الذي تذمُّون، لا فعل له، وإنما هو فعلُ الله، فهذا وجه الكلامِ إن شاء الله تعالى، والله أعلم».
4- وغلَّط الأزهريُّ (ت 370هـ) في «تهذيب اللغة» [13/ 159] قول من قال: إن الدهر والزمانَ شيءٌ واحد، ثم قال: «الدهرُ عند العرب: يقع على قدرِ الزمان من الأزمنة. ويقع على مدَّة الدنيا كلها. سمعتُ غير واحد من العرَبِ يقول: أقمنا بموضعٍ كذا دهْراً، وإن هذا المكان لا يحملنا دهراً طويلاً. والزمان يقع على الفصلِ من فصول السنة، وعلى مدة ولاية والٍ، وما أشبهَه».
5- وقال الجوهري (ت 393هـ) في «الصحاح» [2/ 662]: «لا تسبُّوا فاعلَ ذلك بكُم، فإن ذلكَ هو الله تعالى».
6- وقال ابن فارس (ت 395هـ) في «مقاييس اللغة» [2/ 306]: «وقد يحتملُ، قياساً، أن يكون الدَّهر: اسماً مأخوذاً من الفعلِ، وهو الغلبةُ. كما يقالُ: رجلٌ صومٌ وفِطرٌ. فمعنى «لا تسبوا الدَّهر»، أي: الغالبَ الذي يقهركم ويغلبكُم على أموركم».
7- وقال أبوعبيد الهروي (ت 401هـ) في «الغريبين» [2/ 660]: «تأويله عندي: أن العرب كان شأنها أن تذُم الدهر وتسُبه عند النوازل، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر. وقد ذكروه في استعارتهم». ثم قال: «لم يذهب المشِكُّون من أهل الجاهلية إلى ما ذهب إليه الملحدونَ في تفسير هذا الحديث، وإنما ذهب إلى هذا المولَّدُون، ومن لا فهم له بكلام العرب ومعانيها».
8- وقال ابن سيده (ت 458هـ) في «المخصَّص» [2/ 400]: «ليس الله هو الدهر، تعالى عن ذلكَ، لأن الدَّهر عرضٌ، وليس ربُّنا عرضاً، وإنما أراد: فإنّ ما تنسبُونه إلى الدهْر إنما هو فعْلُ الله عزَّ وجَلَّ».
9- وقال القاضي عياض (ت 544هـ) في «المشَارق» [1/ 262]: «الدهرُ: مدة الدنيا. وقيل: إنه مفعولاتُ الله تعالى. وقيل: فعلُه، كما قال: «إني أنا الموت». ومعنى الحديث: فإنّ مصرِّفَ الدهر، ومُوجد أحْداثه، اللهُ تعالى. أي: أنا الفاعل لذلكَ. قال بعضُهم: وقد يقع الدهر على بعضِ الزمان، يقال: أقمنا على كذا دهراً، كأنه لتكثير طولِ المقام. ولهذا اختلف الفقهاءُ فيمن حلفَ لا يكلم أخاه دهراً، أو الدهرَ؛ هل هو متأبد؟».

المبحث الثالث

 توجيهُ السلف لمعنى سبِّ الدهرِ

1- قال الإمام سفيان بن عيينة (ت 198هـ) رحمه الله: كان أهل الجاهلية يقولونَ: إن الدهْر هو الذي يهلكُنا، هو الذي يميتُنا ويحيينا. فردَّ الله عليهم قولَهم. وتلا سفيانُ هذه الآية: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموتُ ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر. أخرجه الحاكم في «المستدرك» [2/ 491، رقم 3690].
2- قال الإمام الشافعي (ت 204هـ)، فيما رواه عنه حرملة التجيبي: «وإنما تأويله، والله أعلم: أن العربَ كان شأنها أن تذُمّ الدهر، وتسبه عند المصائبِ التي تنزل بهم، من موت أو هرَم أو تلفٍ، أو غير ذلكَ، فيقولون: إنما يهلكنا الدهر. وهو الليل والنهارُ، الفَنْتانِ[1] والجديدان، فيقولون: أصابتهم قوارعُ الدهر، وأبادهم الدهرُ، وأتى عليهم. فيجعلون الليلَ والنهارَ اللذين يفعلان ذلكَ، فيذمون الدهرَ بأنه الذي يفنينا، ويفعلُ بنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبُّوا الدهرَ»، على أنه يفنيكم، والذي يفعل بكم هذه الأشياءَ، فإنكم إذا سببتم فاعلَ هذه الأشياءِ؛ فإنما تسبون الله تبارك وتعالى، فإن الله فاعل هذه الأشياء». أخرجه البيهقي في «معرفة السنن والأثار» [5/ 202-204].
كلام الشافعي هذا قاله أبوعبيدٍ القاسمُ بن سلاَّم في «غريب الحديث» [1/ 356]، وختمه قائلا: «فهذا وجهُ الحديثِ، إن شاء الله، لا أعرف له وجهاً غيره». ونقل الأزهريُّ (ت 370هـ) في «تهذيب اللغة» [6/ 109] كلامَ أبي عبيد، ثم عقبه بقوله: «قلتُ: وقد قال الشافعيُّ في تفْسير هذا الحديثِ نحواً مما قال أبو عبيدٍ، واحتج بالأبياتِ التي ذكرها أبو عُبيد، فظننتُ أبا عبيد عنه أخذَ هذا التفسير، لأنه أول من فسره»، اهـ. ونقل عبارة الأزهري ابن منظور في «اللسان» [4/ 293]، والزبيدي في «تاج العروس» [11/ 345]. كما سيأتي أن ابن قتيبة (ت 276هـ) اعتمد كلام الشافعي هذا واحتج به في «تأويل مختلف الحديث».
3- وقال ابن بطال (ت 449هـ) في «شرح صحيح البخاري» [10/ 499]: «قوله: (وأنا الدهرُ) أي: أفعلُ ما يجري به الدهر من السراءِ والضرَّاء. ألا ترى قوله تعالى: «بيدي الأمرُ، أقلب الليل والنهار». فالأيام والليالي ظروفٌ للحوادث، فإذا سببتمُ الدهْر وهو لا يفعلُ شيئًا؛ فقد وقع السبُّ على الله».
4- وقال ابن العربي (ت 453هـ) في «القبس» [ص 1164]: ««خرَج هذا على عادة الجاهلية في نسبتها الأفعال إلى غير الله تعالى من الأسباب المترددة، والحوادث المتعاقبة، فإذا جاء الخلق من ذلك ما يحبون، فرحُوا بذلك المتاع، وإذا جاءهم ما يكرهون عكَفوا على الدهر يسبُّونه وينسبونه إلى اللوم والإذاية. فأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يطهر عقائدهم من هذا المنزع الخبيث، ويعلمهم بأن هذه الأفعال التي يكرهون، والأفعال التي يحبون، ليست منسوبةً إلى الأسباب، ولا محسوبة على الحوادث، وإنما هي كلها مضافةٌ إلى الله تعالى تقديراً وخلقاً. وسب الحكمِ والمعلُول سبٌ للعلّة. فإنك إذا قلتَ: فعل الله بفلان كَذا كذا، وكان المشار إليه باللَّوم موجوداً في غيره، فقد دخل في حكمِه».
5- وقال البغوي (ت 516هـ) في «شرح السنة» [12/ 357]: «قوله: «فإن الله هو الدهر»، أي: هو صاحبُ الدهر، ومدبِّر الأمُور المنسوبة إليه».
6- وقال المازري (ت 536هـ) في «المعْلِم» [3/ 190]: «قوله: «فإنَّ الله هو الدهر»، فإن ذلك مجازٌ. والدهرُ: إن كان عبارةً عن تعاقُب الليل والنهار، واتصالهما سرمداً؛ فمعلومٌ أن ذلك كلَّه مخلوقٌ، وأنه أحدُ أجزاء العالم المخلوقة، فلا يصحُّ أن يكون المخلوقُ هو الخالق.  وإنما المراد: أنهم كانوا ينسبون الأفعال لغير الله سبحانه وتعالى، جهلاً بكونه عز وجل خالقُ كل شيءٍ، ويجعلون له شريكاً في الأفعال. فأنكر عليهم.
وأراد: أن الذي يشيرون إليه بأنّه يفعل هذه الأفعال، هو الله، جلّت قدرتُه، ليس هو الدهرُ. وهذا كما لو قال قائل: القاضي فلانٌ قتل فلاناً الزاني. فيقول الآخر: الشرعُ قتلَه، لم يقتله القاضي. أو يقول: الشرعُ هو القاضي. وإنما يعني: أنه يجب إضافةُ الشيء إلى ما هو الأصلُ فيه، أو التنبيه على غلط القائلِ، وإرشادُه لموضع الصوابِ، إذا ظن به أنه خفي عنه». ونقله بنصّه القاضي في «إكمال المعلم» [7/ 182].
7- وفي «شرح النووي على مسلم» [15/ 3] بعد إيراده موجز كلام الشافعي: «ومعنى «فإن الله هو الدهر»، أي: فاعلُ النوازل والحوادثِ، وخالقُ الكائنات، والله أعلم»

المبحث الرابع

إبطال شبهة أن سبَّ الدهر هي عينُ قول الدّهرية

تناول هذه الشبهة ابن قتيبة (ت 276هـ) في «تأويل مختلف الحديث» [ص 324]، فأوردَ نص الشبهة، ثم أردفها بالجواب عنها وبيانها.
الشبهة: «قالوا: رويتُم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبُّوا الدهرَ، فإن الله تعالى هو الدهر»، فوافقتم في هذه الرواية، الدهرية»، انتهى كلام ابن قتيبة.
أقول: هذه الشبهة، القائلة بأن قضية حديث (سبّ الدهر) إنما هي موافقةٌ ما عليه اعتقاد الجاهليين في تصرف الدهر! تسللت إلى عقول بعض العصريين، فكتب مؤرخ عربي شهير، هو د. جواد علي، في مؤلف له ذائع الصيت هو موسوعته المسماة «المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام» [11/ 150]، كتب يقول فيه، بعد أن أورد الحديثين الواردين في سب الدهر: «وفي هذين الحديثينِ توفيقُ فكرةِ الجاهليين في الدَّهر، والعقيدة الإسلامية في التوحيد! بأن صيَّر الدهرَ الله، وصيَّره بعضُ العلماء من أسماء الله الحسنى[2]. والذي حملهم على ذلك، على ما أرى: صعوبةُ إزالة تلك الفكرةِ التي رسخَت في النفوس منذ القدم، عن فعل الدهر، وعن أثره في الكَون!. فرأى القائلون بذلك: إزالتَها بجعْل الدهر اسماً من أسماء الله، أو هو الله تعالى، وهو واحدٌ أحدٌ، والدهرُ واحدٌ أبديٌ أزلي كذلكَ، فلا تصادُم في هذا التوفيقِ بين الرأيين. وقد وقع هذا التوفيقُ على ما أعتقد بعد وفاة الرسُول في أمور عديدة نسبت إلى الرسول، وقد ثبتَ عدم إمكانِ صدُورها منه. وللحكْم على صحَّة نسبة الحديثينِ إلى الرسول أحيل القارئ على الطرق التي وردَا بها، وإلى آراء العلماء فيهما، وأعتقِد أنه إن فعل ذلك فسيجدُ في نسبتها إلى الرسُول بعضَ الشكِّ، إن لم أقل كُلَّ الشك»، انتهى كلام الدكتور.
وأعلق سريعاً على فحوى كلامه: بأنه في كتابه «المفصل» لم يستطع التخلي عن خلفيته الشيعية في نظرته إلى ما صح وثبت من الأحاديث النبوية أهل السنة بأنها دخلتها ألاعيب السياسة، وهذه نغمة قديمة ولا تزال تتردد إلى يومنا هذا. إضافة إلى أن الحديثين هما من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وهذه لوحدها تكفي عند الشيعة لرد الحديث بغض النظر عن صحته أو عدمها، فموقفهم من حديث أبي هريرة معروف. إذا عرفنا هذه الخلفية الفكرية الدينية لدى د. جواد علي؛ عرفْنا أن كلامَه لم يقم على بحث علمي نزيه مجرَّد، بحسب ما يدعو هو إليه، من وجوب تخلي المؤرخ عن خلفيته الدينية.
الجواب على أصل الشبهة: وهي كونُ قضية سب الدهر الواردة في الأحاديث الصحاح موافقةً لفكرة الدهريين من العرب، فأتركه للإمام ابن قتيبة، قال رحمه الله:
«ونحن نقولُ: إن العربَ في الجاهلية كانت تقول: أصابني الدهر في مالي بكذا، و: نالتني قوارع الدهرِ وبوائقُه، ومصايبُه. ويقول الهرِمُ: حنَاني الدهرُ. فينسبون كل شيء تجري به أقدار الله -عز وجل- عليهم، من موت، أو سقم، أو ثكل، أو هرم، إلى الدهر». إلى أن قال: «وقد حكى الله، عزَّ وجلَّ، عن أهل الجاهلية ما كانوا عليه من نسبِ أقدار الله عز وجل وأفعاله إلى الدّهر، فقال: وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الدهرَ» إذا أصابتكم المصَايبُ، ولا تنسبوها إليه، فإن الله عز وجلَّ هو الذي أصابكُم بذلك، لا الدهرُ. فإذا سببتم الفاعلَ؛ وقع السبُّ بالله عز وجلَّ. ألا ترى أن الرجلَ منهم، إذا أصابته نائبةٌ، أو جائحةٌ في مالٍ أو ولدٍ، أو بدنٍ، فسبَّ فاعل ذلك به، وهو ينوي الدهرَ؛ أن المسبوبَ هو الله عز وجلَّ!.
وسأمثّل لهذا الكلام مثالاً أقرِّبُ به عليكَ ما تأولتُ، وإن كانَ بحمد الله تعالى قريباً: كأنَّ رُجلاً يسمَّى (زيدا) أمرَ عبداً له يسمَّى (فتحا)، أن يقتل رجَلاً، فقتله. فسبَّ الناسُ (فتحاً)، ولعنوه. فقال لهم قائلٌ: لا تسبوا (فتحاً)، فإن (زيداً) هو (فتحٌ). يريد: أن (زيداً) هو القاتلُ، لأنه هو الذي أمره. كأنه قال: إن القاتلَ (زيدٌ)، لا (فتحٌ). وكذلك الدهرُ تكون فيه المصايبُ والنوازل، وهي بأقدار الله عز وجل، فيسبُّ الناسُ الدهر، لكونِ تلك المصايب والنوازل فيه، وليس له صنعٌ، فيقول قائل: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر». انتهى.
وكلام ابن قتيبة هو عينُ كلام الإمام الشافعيِّ الذي تقدمَ نقلُه، وإنما زاده إيضاحاً بضرب المثالِ، والله أعلم. كما أورد الخطابي (ت 388هـ) في «معالم السنن» [4/ 158] تأويل الحديث بإيجاز، ومثله البيهقي في «الآداب» [ص 148]. وقال ابن عبدالبر (ت 463هـ) في «التمهيد» [18/ 155]: «يعني: لأنكم إذا سببتموه وذممتموه، لما يصيبكم فيه من المحَنِ والآفات والمصائب؛ وقع السبُّ والذمُّ على الله، لأنه الفاعلُ ذلك وحْدَه لا شريك له. وهذا ما لا يسع أحداً جهلُه، والوقوفُ على معناه، لما يتعلقُ به الدهريةُ أهلُ التعطيلِ والإلحاد».
والردود على الدهرية كثيرة، وليس هنا مجال استقصائها.



المبحث الخامس

 ضبط عبارة «وأنا الدَّهر» وأثرُها على توجيه المعنى

تقدم معنا أن نصَّ الحديث القدسي، وهو الأصل في المسألة: «يؤذيني ابن آدم، يسُبُّ الدهْرَ، وأنا الدهْرُ بيدي الأمر». وقد جرى خلاف بين أهل العلم قديماً في ضبط «الدهر» الواقعة بعد ضمير المتكلم، هل هي بالرفع، أم بالنصب.
القول الأول: أنها بالرفع، وهو ما قاله «أبو عبيدٍ، والشافعيُّ، وغيرهما من المتقدمين والمتأخرين»، قاله القاضي عياض (ت 544هـ) في «الإكمال» [7/ 182]. وفي «المفردات» للراغب (ت 502هـ) [ص 319-320]: «وقال بعضهم: الدهرُ الثاني في الخبَر، غير الدّهر الأوّل. وإنما هو مصدرٌ بمعنى الفاعلِ. ومعناه: أنّ الله هو الدّاهر. أي: المصرّف المدبّر، المفيض لما يحدث، والأول أظهر»، اهـ. ونقله عنه ابن حجر في «الفتح» [8/ 575]، والألوسي في «تفسيره» [13/ 151] لكنه تعقبه قائلا: «وفيه بعدٌ».
القول الثاني: أنها بالنصب. وهو قول أبي بكر الأصبهاني، محمد بن داود بن علي الظاهري (ت 297هـ)، قال الخطابيُّ (ت 388هـ) في «معالم السنن» [4/ 159]: «كان ابن داودَ ينكرُ رواية أصحابِ الحديث هذا الحرفَ مضمومةً. ويقول: لو كان كذلكَ؛ لكان الدهرُ اسماً معدُوداً من أسماء الله عز وجلَّ. وكان يرويه: «وأنا الدّهرَ أقلبُ الليل والنهار»، مفتوحةَ الراء على الظرفِ. يقول: أنا طولَ الدهرِ والزمانِ أقلبُ الليل والنهارَ». ونقل عبارة الخطابي: البغويُّ (ت 516هـ) في «شرح السنة» [12/ 358]، وغيره.
المؤيدون: لم يكن ابن داود متفرداً بالقول بالنصْبِ، بل نقله القاضي عياض في «الإكمال» عن غيره، قال [7/ 182]: «حكَى هذه الروايةَ بالنصْبِ: أبو عُمر بنُ عبد البر التمهيد»: 8/ 154] عَن بعض أهل العلم، وقال ابن النحَّاس: يجوز النصبُ، أي: فإن الله باق مقيمٌ أبداً لا يزولُ. وقال بعضُهم: نصبُه على الخصُوص والظرفِ؛ أصحُّ وأصْوبُ»، اهـ. وعبارته في «المشارق» [1/ 262]: «.. فروي بالرّفع والنصْبِ. واختيارُ الأكثرِ: النصبُ على الظرفِ، وقيل: على الاختصاصِ. وأما الرفعُ: فعلى التأويل الأول».
قولٌ وسَطٌ: الإمام النوويّ في «شرح مسلم» نقل عبارة «الإكمال» للقاضي، ثم قال [15/ 2]: «أما روايةُ الرفْعِ، وهي الصوابُ؛ فموافقةٌ لقوله: فإن الله هو الدهر». فذهب ابن العراقي (ت 826هـ) في تتمة «طرح التثريب» [8/ 157] إلى القول بأن الإمامَ النوويَّ يرجحُ الرفعَ، واكتفى بنقل كلامه الذي إنما هو عين كلام القاضي عياض المتقدم في «الإكمال» [7/ 182]، مع أنه نقل عن القاضي قوله: إن الأكثرين على النصب، وارتضاه، ولم يتعقبه. ولقائلٍ أنْ يقول هنا: إن ظاهر عبارة الإمام النووي: أنه لا يخطئُ ابن داودَ في اختياره النصب في رواية «وأنا الدَّهْر»، وإن كان يرى أ الرفعَ هو الصوابُ ليتوافق مع رواية «هو الدّهرُ».
المعارضُون: اعترضَ على قول ابن داود ومن تبعه، ابنُ الجوزي (ت 593هـ) في «كشف المشكل من حديث الصحيحين» [3/ 347-348] قائلاً: «وهذا الذي ذهبَ إليه باطلٌ من ثلاثةِ أوجه: أحدها: أنه خلافُ أهل النقْل، فإن المحدِّثين المحققين لم يضبطُوا هذه اللفظةَ إلا بضمِّ الراء، ولم يكُن ابن داودَ من الحفاظ، ولا من علماء النقلة. والثاني: أن هذا الحديث قد ورد بألفاظٍ صحَاحٍ يبطل تأويلَه»، واحتج برواية: «فإن الله هو الدهر».
قال: «والثالث: أن تأويلَه يقتضي أن تكون علةُ النهيِ لم تذكر؛ لأنه إذا قال: «لا تسبوا الدهر؛ فأنا الدهرَ أقلبُ الليل والنهار»، فكأنه قال: لا تسبوا الدهرَ فأنا أقلبه. ومعلوم أنه يقلبُ كلَّ خير وشرٍّ، وتقليبُه للأشياءِ لا يمنعُ من ذمِّها»، انتهى المقصود منه.
كما اعترضَ على ابن داودَ، أبو العباس القرطبي (ت 656هـ) في «المفهم» [5/ 548-549] قائلاً: «الذي حمله على ذلكَ: خوفُ أن يقال: إن الدَّهر من أسماء الله تعالى! وهذا عدولٌ عما صحَّ إلى ما لم يصحَّ، مخافة ما لا يصحُّ. فإن الروايةَ الصحيحةَ، عند أهل التحقيق: بالضمِّ. ولم يروِ الفتْحَ من يعتمدُ عليه». ثم قال: «ثم لو سُلِّمَ أن النصبَ يصحُّ في ذلك اللفظِ، على ذلك الوجه؛ فلا يصحُّ شيءٌ من ذلك في الرواية التي قال فيها: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر». ولم يذكر: «أقلبُ الليل والنهار». ولا يصحُّ أن يقال: إن هذه الروايةَ مطلقةٌ، والأولى مقيدةٌ؛ لأنا إن صِرْنا إلى ذلك: لزمَ نصْبُ (الدّهرِ) بعاملٍ محذوفٍ ليس في الكلامِ ما يدلُّ عليه. ولزم حذفُ الخبر، ولا دليلَ عليه. وكل ذلك باطلٌ من اللسان قطعاً»، انتهى. ونقل عبارة القرطبيِّ هذه بحرفها، الوليُّ ابن العراقي (ت 826هـ) في تتمة «طرح التثريب» [8/ 157]. وأتى الآلوسي في «تفسيره» [13/ 151] بخلاصة كلام المعترضينَ، ثم قال: «ومن ثمَّ كان الجمهورُ على ضم الراء».

المبحث السادس

 في رد قول من قال: إنّ الدهْرَ من أسماء الله تعالى

اختلف أهل العلم في إثبات الدهر اسماً من أسماء الله الحسنى، وهم في ذلك فريقان:
الفريق الأول: من أثبته اسماً من الأسماء الحسنى، اعتماداً على حديث الباب، وأشهر من قال بهذا هو ابنُ حزم الظاهريُّ (ت 456هـ)، فقد عدَّ (الدّهر) من أسماء الله الحسنى صراحةً في كتابه «المحلَّى» [6/ 282]، وقد أوصلها إلى ثمانين اسماً.
وتقدم قريباً بحثُ قول أبي بكر الأصبهاني، محمد بن داود الظاهريَّ (ت 298هـ) في إنكاره كون الدهر من أسماء الله، وذهب إلى تغليط المحدثين في ضبطهم (الدهر) بالرفع في حديث: «أنا الدَّهر أقلبُ الليلَ والنهار» وقرَّر أنّ الصواب: ضبطها بالنصب، وأنه كان «يقول: لو كان كذلكَ؛ لكان الدهرُ اسماً معدوداً من أسماءِ الله»، كذا حكاه الخطابي في «المعالم» [4/ 159]. وفي «المفهم» للقرطبي [5/ 548]: «لا يلزم من ثبوت الضمِّ أن يكُون الدهر من أسماء الله تعالى؛ لأن أسماء الله تعالى لا بد فيها من التوقيف عليها، أو استعمالها استعمال الأسماء من الكثرة والتكرار».
ثم إنني بعد بحث وتفتيش، وجدتُ أن ابن حزمٍ لم يكن متفرداً بهذا القول، بل سبقه المحدث الكبير أبوعوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (ت 316هـ) في «مستخرجه» [17/ 198] حيث أورد حديث الباب تحت ترجمة: (بيان النهي عن سبِّ الدهْر، والدليلُ على أنه اسمُ الله لا يسمَّى به شيءٌ من الأشياء). ولم ينكر هذه الترجمة أحدٌ ممن أنكر على ابن حزم، والأمر يحتاج إلى مزيد تقص وبحث. ثم وقفتُ على عبارة للقرطبي المفسِّر في كتابه «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى» [ص 111]: «قال أبونعيم، صاحب ابن المبارك، في كتاب «العصمة» له: الدهر، من أسماء الله تعالى، لم يختلفوا فيه. وساق الأحاديث الواردة فيه، وطول الكلام عليه»، انتهى. وهذا نقل غريب، وقد بحثت عن كتاب بعنوان «العصمة» لأبي نعيم الفضل بن دكين (ت 219هـ) فما وجدت شيئاً.
وأشار الإمام الغزالي (ت 505هـ) في «المقصد الأسنى» [ص 172] إلى قول ابن حزم من جمع الأسماء الحسنى، وقال: «لم أعرف أحداً من العلماء اعتنى بطلبِ ذلك وجمعه سوى رجُل من حفاظ المغرب، يقال له: علي بن حزمٍ. فإنه قالَ، رحمه الله: «صحَّ عندي قريبٌ من ثمانين اسماً يشتمل عليها الكتابُ والصحاحُ من الأخبار، والباقي ينبغي أن يُطلبَ من الأخبار بطريق الاجتهاد». وأظنُّ: أنه لم يبلغه الحديثُ الذي فيه عدد الأسامي. وإنْ كانَ بلغَه؛ فكأنه استضعفَ إسناده، إذ عدل عنه إلى الأخبار الوارِدة في الصحاح، وإلى التقاط ذلك منها»، انتهى كلام الغزالي. ونقل كلامه ابن الملقن (ت 803هـ) في «البدر المنير» وعقب عليه قائلاً [9/ 485]: «قلتُ: قد بلغه وضعَّفه»، ومثله ابن حجر (ت 852هـ) في «فتح الباري» [11/ 216-217] وقال: «قلتُ: الثاني هو مرادُه».
واشتدّ ابن العربي (ت 554هـ) في «القبس» [ص 1164] قائلاً: «ظنَّ بعضُ الجهَّال أنّ هذا يقتضي: تعديدَ الدَّهرِ في أسماء البارئ تعالى. وذلك باطلٌ». وأشد منها عبارته في «أحكام القرآن» [4/ 38]، حيث وصف ابن حزم بالسَّخيف! وذلك لاقتصاره على ثمانين اسماً هي صفاتٌ جعَلها هو أسماء، وتعجَّب ابن العربي أيضاً من ثناء الغزالي على ابن حزم، ووصفه إياه بالحفظ!. وشاركه في التعجُّبِ القرطبي (ت 671هـ) في «الأسنى» [ص 68] من صنيع ابن حزم، ولكنه أنكر تحامل ابن العربي عليه وعلى الغزالي، ونقل إنكاره ابنُ الملقن في «البدر المنير» [9/ 485]. ثم قال القرطبي [ص 69]: «وليسَ لهذا التحامل كله وجه، لما تقدم أن الأسماء المصرح بها في القرآن غير المشتقة ولا المضافة لا تصل إلى تسعة وتسعين»، اهـ.
وعبارة القاضي عياض في «المشارق» [1/ 262] ألطف من عبارة ابن العربي، وكلاهما مالكيان مغربيان، قال القاضي: «وذهب بعضُ من لم يحقِّق: إلى انه اسمٌ من أسماء الله ولا يصحُّ»، وقال في الإكمال [7/ 184]: «ذكَر من لا تحقيق له: أن الدهر اسمٌ من أسماء الله، وهذا جهلٌ من قائله، وذريعةٌ إلى مضَاهاة قول الدَّهرية والمعطلة»، اهـ. ونقله ابن العراقي في تتمة «طرح التثريب» [8/ 157]. كما غلطه ابن كثير في «تفسيره» [7/ 270] قائلاً: «غلِط ابنُ حزمٍ، ومن نحا نحوه من الظاهرية، في عدِّهم الدهر من الأسماء الحسنَى».
ولعل في قول ابن كثير «ومن نحا نحوه من الظاهرية»، إشارة إلى الشيخ محيي الدين ابن عربي الطائي (ت 643هـ)، وهو ظاهري المذهب، فإنه قالَ في (الباب الثالث والسبعين) من «الفتوحات المكية»: «الدهر: من الأسماء الحسنى، كما ورد في «الصحيح». ولا يتوهّمُ من هذا القولِ: الزمانُ المعروفُ، الذي نعدُّه من حركات الأفلاكِ، ونتخيل من ذلك درجاتِ الفلَك التي تقطعها الكواكبُ، ذلك هو الزمان. وكلامُنا: إنما هو في الاسم الدهر، ومقاماته التي ظهر عنها الزمان»، انتهى، نقله الزبيديُّ في «تاج العروس» [11/ 343].
 تقي الدين ابن تيمية (ت 728هـ) أنكر على ابن حزم أيضاً، ففي «منهاج السنة» [2/ 583]: «زعمَ ابنُ حزم أن أسماء الله تعالى الحسنى لا تدل على المعاني، فلا يدل عليم على علم، ولا قدير على قدرة، بل هي أعلام محضةٌ، وهذا يشبه قول من يقول بأنها تقال بالاشتراك اللفظي. وأصل غلط هؤلاء شيئان: إما نفي الصفات والغلو في نفي التشبيه، وإما ظن ثبوت الكليات المشتركة في الخارج»، اهـ. ولكنه أغربَ في مواضع أخر بنسبته القولَ إلى نعيم بن حماد، وليس إلى ابن حزم، كما في «الصارم المسلول» [ص 495].
وأشد غرابة ما ورد في كتاب «بيان تلبيس الجهمية» [5/ 184]، ونصُّ كلامه: «ذهب طوائفُ من أهل السنة والمعرفة! إلى أن الدَّهر من أسماء الله على ظاهر الحديث المروي في ذلك. وقالوا: معناهُ الباقي الدائم الأزلي»، وفي «الفتاوى الكبرى» [5/ 67]: «قولُ نُعيم بن حماد، وطائفةٍ معه من أهل الحديث والصوفية: إن الدهر من أسماء الله تعالى»، والعبارة نفسها تكررت في «مجموع الفتاوى» [2/ 494]. وقد تناقل عديد من المؤلفين والباحثين من المعاصرين هذه العبارة دون تمحيص، ولم أجد من نبه على ضعف نسبة القول إلى نعيم بن حماد إلا عبد الله المزروع في حواشيه على كتاب «التعليق على القواعد المثلى» [ص 29] حيثُ قال: «وقد بحثت عن إسناد رواية نُعيمٍ، فلم أعثر عليه».
وممن مال إلى تصحيح القول بأن الدهر من الأسماء الحسنى مجد الدين الفيروزأبادي في «القاموس» مادة (دهر)، قال: « الدّهر: قد يعدُّ في الأسماء الحسنى». واحتجَّ بقوله التهانويُّ في «كشاف اصطلاحات الفنون» [1/ 1388] قائلا: «وقد أنكر ذلك الخطّابيُّ. ولكن صحّة ذلكَ تُفهَم من القاموس». وقال الزبيديُّ في «تاج العروس» [11/ 343]: «قال شيخنا: وعدُّه في الأسماء الحسنى من الغرابة بمكَانٍ مكين، وقد ردَّه الحافظُ بن حجر، وتعقبه في مواضِع من «فتح الباري»، وبسطه في (التفسير) وفي (الأدب) وفي (التوحيد). وأجاد الكلام فيه شُراح «مسلم» أيضاً: عياض، والنووي، والقرطبي، وغيرهم. وجمع كلامَهم الآبيُّ في الإكمال»، ثم قال: «قال شيخُنا: وكأن المصنفَ، رحمه الله، قلّدَ في ذلك الشيخ محيي الدين ابن عربي»، الخ، ونقل كلامه المتقدم. ثم قال: «ونقله الشيخُ إبراهيم الكوراني شيخ مشايخنا، ومالَ إلى تصحيحه. قال: فالمحققون من أهل الكشف عدّوه من أسماء الله بهذا المعنى، ولا إشكالَ فيه. وتغليطُ عياضٍ القائلَ بأنه من أسماء الله؛ مبنيٌ على ما فسَّره به من كونه مدة زمان الدنيا، ولا شك أنه بهذا المعنى يغلّطُ صاحبه. أما بالمعنى اللائقِ كما فسَّره الشيخُ الأكبر، أو: المدبّر المصرِّفُ، كما فسره الراغبُ، فلا إشكالَ فيه. فالتغليطُ ليس على إطلاقه. قال شيخنا: وكان الأشياخُ يتوقّفون في هذا الكلام بعضَ التوقف، لما عرضتُه عليهم. ويقولون: الإشاراتُ الكشفية لا يطلقُ القول بها في تفسير الأحاديثِ الصحيحة المشهورة، ولا يخالَفُ لأجلها أقوال أئمة الحديث المشاهير، والله أعلم».

المبحث السابع

الأوجه الثلاثة في معنى سب الدهر

بوَّب البيهقي (ت 458هـ) في كتاب «الآداب» [ص 148]: (بابُ النهي عن سبِّ الدهر عند نزولِ المصائب به، وهو يعتقد: أنَّ الدهْر هو الذي يفعلُ به ما ينزلُ به من المصائب). ومفهومه: التفريقُ بين من يعتقد ذلك، ومن لا يعتقد.
أما أقدم من قسَّم مسألة سب الدهر إلى أقسام ثلاثة، هو أبو المظفر السمعاني، منصور بن محمد (ت 489هـ)، في «تفسيره» [5/ 143]، حيث قال: «وفي معنى الخبر ثلاثة أوجه»:
الوجه الأول: أن معناه: «إن الله هو الدهر»، أي: خالقُ الدهر.
الوجه الثاني: «لا تسبوا الدهرَ» فإني فاعلُ الأشياء. وكانوا يضيفون الفعلَ إلى الدهر ويسبُّونه. «فإن الله هو الدهر»، يعني: أن الله فاعل الأشياء لا الدهر، وهذا قول معتمدٌ.
الوجه الثالث: وهو أنهم كانوا يعتقدُون بقاءَ الدهر، وأنه لا يبقى شيءٌ مع بقاء الدهر. فقال: لا تسبوا الدهرَ، يعني: لا تسبُّوا الذين يعتقدون أنه الباقي؛ فإن الله هو الدهر. يعني: فإن الله هو الباقي بقاءَ الأبدِ، على ما يعتقدون في الدهر»، اهـ. وفي «بذل المجهود» [13/ 662] أوجهٌ قريبة من هذه، ولكنها دونها في التفصيل.




المبحث الثامن

 حكم من سبَّ الدهْر من المسلمين

بعد جمع النصوص من كتب أهل العلم، من المتقدمين والمتأخرين، وجدت أن بينهم اتفاقاً في مسألةٍ وهي إكفار من اعتقد تأثير الدهر بنفسه، واختلافاً في أخرَى وهي إعذار الشعراء المسلمين في عتابهم الدهر.
[1] فأما المسألة التي اتفقوا عليها: فهي أن الدهريين من العربِ قبل الإسلام مشركون بالله، لأنهم جعلوا الدهر مؤثراً بنفسه، فأكسبوه صفة الخالق تعالى. ومثلهم في الحكم من اعتقد ذلك من أهل الإسلام، وقد بوب الحافظ البيهقي (458هـ) للحديث في كتاب «الآداب» [ص 148]: (بابُ النهي عن سبِّ الدهر عند نزول المصَائب به، وهو يعتقِدُ أن الدهرَ هو الذي يفعلُ به ما ينزلُ به من المصائب».
قال القرطبي (ت 656هـ) في «المفهم» [5/ 547-548]: «ويراد بابن آدم هنا: أهلُ الجاهلية، ومن جرَى مجراهم؛ ممن يطلقُ هذا اللفظ، ولا يتحرَّز منه. فإن الغالبَ من أحوال بني آدم: إطلاقُ نسبة الأفعال إلى الدَّهْر، فيذمُّونَه، ويسفِّهونه إذا لم تحصل لهم أغراضُهم، ويمدحونه إذا حصلت لهم. وأكثر ما يوجد ذلك في كلام الشعراء والفصحاء. ولا شك في كفر من نسب تلك الأفعال أو شيئا منها للدهر حقيقة، واعتقد ذلك»، اهـ. ونقله ابن العراقي في تتمة «طرح التثريب» [8/ 156]، وابن الملقن (ت 830هـ) في «التوضيح» [23/ 230]، وشيخنا الهرري في «الكوكب الوهاج» [22/ 383].
وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» [10/ 566]: «قال المحققون: من نسبَ شيئًا من الأفعال إلى الدهر حقيقةً؛ كفَر»، ونقله الزرقاني (ت 1122هـ) في «شرح الموطأ» [4/ 637]، والسهارنفوري (ت 1346هـ) في «بذل المجهود» [13/ 663]، وموسى لاشين في «فتح المنعم» [9/ 35]. وقال الآلوسي في «تفسيره» [13/ 151]: «ومن الناس من قال: إن سبّه كبيرةٌ، إن اعتقَد أن له تأثيراً فيما نزل به، كما كان يعتقد جهلةُ العرب. وفيه نظرٌ! لأن اعتقادَ ذلك كفرٌ، ولي الكلام فيه». وقال: «وعدَّ بعضُهم سبَّه كبيرةً، لأنه يؤدي إلى سبِّه تعالى، وهو كفْرٌ، وما أدى إليه فأدنَى مراتبه: أن يكون كُفراً».
[2] وأما المسألة التي اختلفوا فيها: فهي إعذار الشعراء الإسلاميين، قدماء ومحدثين. فقد انقسموا على ثلاثة أقوال، وتفصيل ذلك فيما يأتي.
الفريق الأول: وهم الذين ذهبوا إلى إعذار المسلم مطلقاً، ولاسيما الشعراء منهم. وقد احتجَّ ابن قتيبة (ت 276هـ) في «تأويل مختلف الحديث» [ص 124] بقول أبي ذؤيب الهذلي (ت 27هـ)، وهو من المخَضْرمين، معدود في التابعين:
أمِنَ المنُونِ وريبِه تتوجَّعُ            والدهْرُ ليسَ بمعْتبٍ من يجزعُ
قال: «يقولون: لعنَ الله هذا الدهْرَ. ويسمُّونه: المنُون. لأنه جالبٌ المنونَ عليهم عندَهم، والمنونُ: المنيةُ». ونقل الحافظ ابن عبدالبر (ت 463هـ) في «التمهيد» [18/ 155]. أشعاراً كثيرة لإسلاميين، كلها تناولت الدهر. منها قول المساور بن هند (ت نحو 75هـ):
بليتُ وعلمي في البلاد مكَانه


وأفنى شبابي الدهر وهو جديد

ومقول أبي العتاهية (ت 211هـ):
إن الزمان إذا رمَى لمصيبُ


والعود منه إذا عجمتَ صليبُ

إن الزمانَ لأهلِه لمؤدبٌ


لو كان ينفع فيهم التأديبُ

كيف اغتررتَ بصرف دهركَ يا أخي


كيف اغتررتَ به وأنت لبيبُ

ولقد رأيتُك للزمَان مجرِّبا


لو كان يحكمُ رأيَك التجريبُ

قال ابن عبدالبر: «فذكر الزمانَ والدهر وهما سواءٌ، ومرادُه في ذلك كله: ما يحدِثُ الله من العِبر فيها لمن اعتبر». وقول ابن المغيرة في شعرٍ يرثي به أباه:
أين من يسلم من صرف الردى


حكم الموت علينا فعدل

فكأنا لا نرى ما قد نرى


وخطوب الدهر فينا تنتضل

قال: وهذا سابقٌ البربري على فضله، يقول:
المرء يجمع والزمان يفرق


ويظل يرقع والخطوب تمزق

وهذا سليمان العدويُّ، وكان خيراً متديناً، يقول:
أيا دهرا عملت فينا أذاكا


ووليتنا بعد وجه قفاكا

جعلت الشرار علينا رؤوسا


وأجلست سفلتنا مستواكا

فيا دهر إن كنت عاديتنا


فها قد صنعت بنا ما كفاكا

قال ابن عبدالبر: «والأشعارُ في هذا لا يحاط بها كثرةً، وفيما لوحنا به منها كفايةٌ، والحمد لله». وقال أيضاً: «وأشعارُهم في هذا أكثر من أن تحصى، خرجتْ كلها على المجَاز والاستعارة. والمعروفُ من مذاهبِ العرب في كلامها: أنهم يسمُّون الشيءَ ويعبِّرون عنه بما يقرب منه، وبما هو فيه. فكأنهم أرادوا ما ينزلُ بهم في الليل والنهار من مصائب الأيام، فجاء النهيُ عن ذلك تنزيهاً لله لأنه الفاعلُ ذلك بهم في الحقيقة. وجرى ذلك على الألسنة في الإسلام وهم لا يريدون ذلكَ؛ ألا ترى أن المسلمين الخيارَ الفُضَلاء قد استعملُوا ذلك في أشعارهِم، على دينهم وإيمانهم، جرياً في ذلك على عادتهم، وعلماً بالمرادِ، وأن ذلك مفهومٌ معلومٌ، لا يشكِلُ على ذي لبّ!».
وقال: «وروينا أن مالكَ بن أنسٍ، رحمه الله، كان ينشدُ لبعض صالحي أهل المدينة:
أخي لا تعتقد دنيا


قليلا ما تواتيكا

فكم قد أهلكت خلا


أليفا لو تنبيكا

ولا تغررك زهرتها


فتلقي السم في فيكا

فمرةً يضيفونَ ذلك إلى الدهر، ومرةً إلى الزمان، ومرةً إلى الأيام، ومرةً إلى الدنيا. وذلك كله مفهومُ المعنَى على ما ذكرنا وفسَّرنا، والحمد لله»، اهـ. قال القرطبي (ت 656هـ) في «تفسيره» [16/ 171] بعد أن نقل بعض أشعار الإسلاميين: «ومثله كثيرٌ في الشعر، ينسبُونَ ذلك إلى الدهر، ويضيفونه إليه، واللهُ سبحانه الفاعلُ لا ربَّ سِواه».
الفريق الثاني: وهم الذين قالوا بالكراهة، وهم الجمهور، وفيهم أكابر المتقدمين والمتأخرين، وبالنظر إلى أبواب كتب الحديث التي روى أصحابها الحديث نجد أنهم أدرجوها في (باب النهي عن سبِّ الدهر)، كما هو الحال عند الحارث بن أبي أسامة (ت 282هـ) في «مسنده» [2/ 830]، وأبي عوانة (ت 316هـ) في «المستخرج» [17/ 198]، والطبراني (ت 360هـ) في كتاب «الدعاء» [ص 563]، وعبدالحق الإشبيلي (ت 581هـ) في «الأحكام الكبرى» [3/ 229]، والنووي (ت 676هـ) في تبويب «صحيح مسلم» [4/ 1762]. جميعهم عبَّروا بالنهي، ولم يذكروا في المسألة كفراً أو تحريماً شديداً.
قال القرطبي (ت 656هـ) في «المفهم» [5/ 548]: «وأما من جرت هذه الألفاظ على لسانه ولا يعتقد صحة تلك: فليس بكَافر، ولكنه قد تشبَّه بأهل الكفر، وبالجاهلية في الإطلاق. وقد ارتكب ما نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. فليتب، وليستغفر الله تعالى»، ونقله ابن الملقن (ت 804هـ) في «التوضيح» [23/ 230]. ومثله قول ابن حجر (ت 852هـ) في «فتح الباري» [10/ 566]، وعبارته: «ومن جرَى هذا اللفظُ على لسَانه غير معتقدٍ لذلك فليسَ بكافر، يكره له ذلكَ، لشبهِه بأهل الكُفر في الإطلاق»، ونقله الزرقاني (ت 1122هـ) في «شرح الموطأ» [4/ 637]، والسهارنفوري (ت 1346هـ) في «بذل المجهود» [13/ 663]، وزاد: «وهو نحو التفصيل الماضي في قولهم: مُطِرنا بكذا». قال أبوالثناء الآلوسي (ت 1270هـ) في «تفسيره» [13/ 151]: «كلام الشافعية صريح بأن ذلك مكروهٌ، لا حرامٌ، فضْلاً عن كونه كبيرة».
الفريق الثالث: من ذهب إلى كونها كبيرةً، وشدد النكير: كابن تيمية (ت 728هـ)، قال في «الصارم المسلول» [ص 562]: «فقد نهى رسولُ الله عليه الصلاة والسلام عن هذا القول وحرَّمه، ولم يذكر كفراً ولا قتلاً. والقولُ المحرَّم يقتضي التعزيرَ والتنكِيل». وقال ابن القيم (ت 751هـ) في «زاد المعاد» [2/ 354]: «فسابُّ الدهر دائرٌ بين أمرينِ، لا بد له من أحدهما: إما سبُّه لله، أو الشركُ به. (1) فإنه إذا اعتقدَ أن الدهْر فاعلٌ مع الله، فهو مشركٌ. (2) وإن اعتقد أن الله وحدَه هو الذي فعل ذلكَ، وهو يسبُّ من فعله؛ فقد سبَّ الله»، اهـ. ونقل العبارة الأخيرة مؤلف «معجم المناهي اللفظية» [ص 201].
وظاهر العبارتين عدم إعذار المسلم المتلفظ بذم الدهر، شعراً كان أم غيره، ومقتضى ذلك أيضاً: تحريم القول مطلقاً، حتى وإن اعتقد أن الدهر لا يتصرف بنفسه. وعبارة ابن القيم أشد من عبارة شيخه، فإنه لم يقدم عذراً لقائل، ولم يفرق بين شاعر وغيره. وهو صريح قول سليمان بن عبدالله (ت 1233هـ) مؤلف «تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد» [ص 528] في قوله: «الحديثُ صريحٌ في النهي عن سبِّ الدهر مطلقاً. سواءً اعتقد أنه فاعلٌ، أو لم يعتقد ذلكَ. كما يقعُ كثيراً ممن يعتقد الإسلام. كقول ابن المعتز:
يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدًا


وأنت والدُ سوءٍ تأكلُ الولدَا

وقول أبي الطيب:
قبحا لوجهك يا زمان كأنه


وجه له من كل قبح برقع

وقول الطوفي[3]:
إن تبتلى بلئام الناس يرفعُهم


عليك دهرٌ لأهل الفضل قد خانا

وقول الحريري:
ولا تأمن الدهر الخؤون ومكره


فكم خامل أخنى عليه ونابه

ونحو ذلك كثير. وكل هذا داخل في الحديث»، انتهى.
ويماثله قول عبدالرحمن بن حسن (ت 1285هـ) في «قرة عيون الموحدين» [ص 213]: «ونسبة الفعل إلى الدهر ومسبتُه كثيرةٌ في أشعار المولَّدين، كابن المعتز، والمتنبي، وغيرهما». وقول ابن سعدي (ت 1376هـ) في «القول السديد» [ص 148]: «هذا واقع كثير في الجاهلية، وتبعهم على هذا كثير من الفسَّاق والمجَّان والحمْقى، إذا جرت تصَاريف الدهرِ على خلاف مرادهم؛ جعلوا يسبون الدهر».
وقد أتى أبوالثناء الآلوسي في «تفسيره» [13/ 151] بخلاصة مفيدة للمسألة، قال: «والذي يتَّجِهُ في ذلك تفصيلٌ، وهو أن من سبه، فإن أراد به: (1) الزمنَ، فلا كلامَ في الكراهة. (2) أو: الله عزَّ وجل؛ فلا كلامَ في الكفر. ومثلُه: إذا أراد المؤثِّر الحقيقيِّ، فإنه ليس إلا الله سبحانه. (3) وإن أطلق؛ فهذا محلُ التردُّد، لاحتمال الكفْرِ وغيره. وظاهرُ كلامهم هنا أيضاً: الكراهةُ، لأن المتبادرَ منه: الزمنُ. وإطلاقه على الله تعالى، كما قالَ بعضُ الأجلَّة، إنما هو بطريق التجوُّز»، انتهى.
وحاصل ذلك: أن أهل العلم على ثلاثة مذاهب:
(1)  من ذهب إلى الإعذار مطلقاً، وأنه مما يتسمح به في الأشعار، وهو مذهب ابن عبدالبر في «التمهيد»، والقرطبي في «تفسيره».
(2)  من ذهب إلى الكراهة، وهم الشافعية وبعضُ المالكية. كما تقدم النقلُ عن القرطبي من المالكية في «المفهم»، وأن كفارته الاستغفار، ونقله ابن الملقن في «التوضيح»، وبه قال العسقلاني في «فتح الباري» ونقله الزرقاني في «شرح الموطأ»، والسهارنفوري في «بذل المجهود». وأيده الآلوسي في «تفسيره» قائلاً: «كلامُ الشافعية صريحٌ بأن ذلك مكروهٌ، لا حرامٌ، فضْلاً عن كونه كبيرةً».
(3)  من ذهب إلى التحريم والقَول بأنه كبيرةٌ، وهم الحنابلةُ، وهو صريح كلام ابن تيمية وابن القيم، وشراح كتاب «التوحيد»، ومن نقل عنهم من المعاصرين.
* * *
وبناء على ما سبق، فإن إنشاد الأشعار التي فيها تذمُّر من الدّهر، أو شكْوَى من أحداثِ الدَّهر ونوازله، وغير ذلك مما تقدم ذكره وشرحه، وإيراد النماذج المتعددة منه من أشعار المتقدمين والمتأخرين، ليس فيه ما يحوج السامعين إلى الإنكار على قائله أو منشده. فقد بسط الحافظ الكبير ابن عبدالبر المالكي (ت 463هـ) رحمه الله العذر لكل شعراء المسلمين في هذا الباب. وغاية الأمر عند بعض الفقهاء من الشافعية والمالكية أن النهي للكراهة، وأما التشدد ورمي المسلمين بالكفر أو الشرك، فهذا منهج غير سديد، وحتى من قالوا إن ذم الدهر مطلقاً من الكبائر والمحرمات، لم يكفروا الشعراء، بل خصصوا وقوع الكفر بمن اعتقد في الدهر ما لا يصح من العقائد الباطلة، وهذا الاعتقاد ينزه المسلم عنه، لأن الأصل في المسلم البراءة من ذلك، واتهام الناس لا يجوز، وإيقاعهم في الحرج من غير حجة أو دليل؛ من الباطل والمنكر الذي ينبغي الانتهاء عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ختاماً؛ ومن أهل العلم من أفرد هذه المسألة بتأليف، والذي وقفت عليه من ذلك: «الحوار الدائر في سب الدهر عند نزول الدوائر»، تأليف محمد بن محمد بن عبدالجبار السماوي اليماني الزيدي (ت 1410هـ)، ذكره السيد عبدالله الحبشي في «مصادر الفكر» (ص 166)، ولم يذكر شيئاً عنه سوى العنوان، ولم أقف عليه. هذا، والله تعالى أعلى وأعلم.

وكان الفراغ من هذا البحث الوجيز، ظهر يوم الاثنين 20 جمادى الآخرة سنة 1440هـ، الموافق 25 فبراير 2019م
وصلى الله على سيدنا وقرة أعيننا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.



المحتويات



 رابط تحميل البحث بصيغة pdf

https://archive.org/details/maasbatheeb_gmail_201903





[1] الفَنتانِ، تثنية فنْتة، وهي: الساعة من النهار.
[2] هذا قول ابن حزم، وقد رده جمهور العلماء عليه، كما سيأتي تفصيله.
[3] وهو: سليمان بن عبدالقوي الطوفي الحنبلي، من أبيات له يمتدح شيخه تقي الدين ابن تيمية بعد خروجه من الحبس سنة 707هـ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق