الحمدلله وحده ..
تداولت بعض وسائل
التواصل مقالة منسوبة لكاتب فاضل، وأخ كريم، حفظه الله وإيانا وسائر المسلمين. كتب
في مطلعها عبارة: «يلتبس اليوم على كثير من الناس الأمر بشأن الحوثيين .. هل هم من الزيدية .. هل هم شيعة ..»، إلى آخرها. وهي مقالة جيدة
بالعموم، وكنت قلت لكاتبها في رسالة خاصة: «عموما .. المقال طيب. وفيه إنصافٌ، كما
عهدناك عليه دوماً. كتابةٌ هادئة متزنة، تعيدُ للعقول شيئاً من الرزانة التي تضيع غالبا
في خضم الأحداث».
ولكن لفت نظري بعض
المعلومات في سطورها، رأيت أنه لابد من الوقوف عندها، وقد راسلت كاتبها الكريم،
فوعد بإعادة النظر فيها. ولكن لأن تلك الكلمة المكتوبة قد انتشرت، وأصبح الناس
يتداولونها يمنة ويسرة. فقد رأيت أن أنشر ملاحظاتي لأنتفع بها ومن يقف عليها ممن
يرغب في الفائدة. وتعليقاتي التي بثثتها هنا، هي من باب الملاحظة التاريخية البحتة، من واقع المصادر والمؤلفات التاريخية المطبوعة والمتداولة بالأيدي.
العبارة الأولى، قال الكاتب
وفقه الله:
«من المعلوم أنَّ اليمنَ كان يغلبُ عليها المذهبُ الزيديُّ قبل
أن تعمد ثورة الجمهورية اليمنية إلى إحياء اجتهادات الإمام الشوكاني وأضرابه ممن هم
أقرب إلى السنّةِ، وقبل أن تسهم وحدة اليمن في انتشار المذهب الشافعيّ».
تعليقي على العبارة
الأولى:
أولا: كان ﻻبد للكاتب من تحديد اليمن الذي يريد الحديث
عنه، فإن اليمن الشمالي، أو شمال اليمن، أياً كان التعبير صحيحاً، تدخل فيه تهامة وكلها
شوافع. والزيدية تنحصر في مناطق جبلية معروفة، هي محافظات صعدة، وصنعاء، وعمران،
وذمار، والجوف، وحجة.
إن
سبب خلط بعض الكتاب، وظنهم أن شمال اليمن كله زيدية، هو وقوعه تحت سلطة آل حميد
الدين في القرن الرابع عشر وما قبله، مع أن التاريخ لو قرأوه لعلموا أن سلطة الإمامة
الزيدية على مناطق تهامة لم تكن متواصلة كما هي عليه في اليمن الأعلى (جبال مطلع)
كما يعبر به في اللهجة المحلية.
إن المناطق التهامية كانت قديماً تحت حكم الدولة الرسولية، ثم في العصر الحديث حكمها الإدريسي، مع تخلل حكم زيدي متقطع في فترات تاريخية متباعدة.
ثانياً: ما
أسماه الكاتب (اجتهادات الشوكاني)، ونسب إحياءها إلى (الثورة اليمنية) على حكم آل
حميد الدين!. أقول للكاتب الفاضل: لقد كان لإمام اليمن المتوكل على الله، يحيى حميد
الدين (ت 1368هـ) رحمه الله، دور كبير لا
يستهانُ به في إحيائها وخدمتها. ولو رجع الكاتب وفقه الله إلى تاريخ النهضة
العلمية الطباعية في اليمن في القرن العشرين، لعلم وعرف أن الإمام يحيى هو من أمر
ووجه بطبع مؤلفات العلامة القاضي الشوكاني رحمه الله، فقد طبع كتاب «نيل الأوطار»
النورَ لأول مرة إلا في عهده، في القاهرة بالمطبعة المنيرية سنة 1347هـ/ 1928م،
بعناية السيد المؤرخ محمد زبارة رحمه الله. وهو من أهم المؤلفات للعلامة الشوكاني
كما هو معلوم للجميع، ثم طبع في مطبعة البابي الحلبي ثم انتشرت طبعاته.
كما طبع كتابه الشهير «الدراري المضية» في مطبعة مصر الحرة في السنة نفسها، 1347هـ.
كما طبع كتابه الشهير «الدراري المضية» في مطبعة مصر الحرة في السنة نفسها، 1347هـ.
بل هناك ما هو أبعد من
مجرد نشر مؤلفات الشوكاني. فإن الكثير من الناس لا يعلمون أن الإمام يحيى رحمه
الله عندما افتتح (المدرسة العلمية) في صنعاء ورصيفتها في تعز، كانت تعنى بتدريس
وإقراء الكتب الستة، جنباً إلى جنب مع كتب المذهب الزيدي الفروعية.
بل إني أقول: إن كتب السنة
كانت مقررة في حلقات الدرس الزيدي. قبل ظهور ابن الوزير والمقبلي وغيرهم. إن علماء
الزيدية لم يكن لديهم تلك الحساسية المفرطة كما عند غيرهم من كتب السنة.
الشيخ ابن باز رحمه
الله يشيد بالمدرسة العلمية بصنعاء في عهد الإمام أحمد:
ومن باب الشيء بالشيء
يذكر، فهناك مذكرة كان الشيخ عبدالعزيز بن باز، رحمه الله، أملاها في موسم حج سنة
1381هـ، أي قبل مقتل الإمام أحمد بنحو أربعة أشهر.
قال رحمه الله: «... اجتمعت في المدينة بالشيخ أحمد بن أحمد البهلول
المدرس لبعض العائلة المالكة بصنعاء، وفي مدرسة دار العلوم بصنعاء،
وأفادني أن في صنعاء جماعة من المدرسين والمذكرين منهم الشيخ ثابت بهران يدرس في
قبة المتوكل يحيى بن حميد الدين والد الملك الحالي، والمذكور يدرس كتب السنة
وغيرها كالبخاري، وزاد المعاد، وغيرها؛ فالمذكور نشيط وقد وخطه الشيب
قليلاً.
ومنهم الشيخ عبد الله
بن عبد الكريم الجرافي يدرس السنة في المسجد الفليحي وفي مدرسة دار العلوم
ويقال لها المدرسة العلمية.
.... ومنهم الشيخ محمد بن إسماعيل العمراني الملقب القاضي يدرس
في مسجد الفليحي كتب السنة، وكتب الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير، وكتب
الشوكاني وهو شاب نشيط في عقد الأربعين، وهو عضو في مجلس الوزراء.
ومنهم الشيخ محمد بن
علي الأكوع يدرس في الجامع الكبير كتب السنة، وعلم الفلك، وهو مؤذن
الجامع ورئيس للمؤذنين والعمدة عليه في التوقيت، ... وهو صاحب سنة، ودعوة إلى التوحيد. وهكذا
المشائخ المذكورون قبله كلهم أهل سنة حسب إفادة الشيخ أحمد المذكور. وقد شاركه في التعريف بالمذكورين، والثناء عليهم
الطالب قايد بن علي العنسي أحد طلاب دار العلوم المشار إليها. ومنهم أيضًا السيد علي بن محمد بن إبراهيم يدرس
في مسجد النهرين كتب السنة، والفقه، والتفسير وهو عضو في محكمة الاستئناف
وهو شيخ كبير.
ومنهم الشيخ أحمد
السياغي يدرس كتب السنة في الجامع الكبير وفي المدرسة العلمية، وهو
شيخ كبير، وصاحب سُنَّة».
راجعوا المذكرة في
الرابط التالي:
وأضيفُ: ليس ابن الوزير والمقبلي والصنعاني والشوكاني، هو المتفردون من بين الزيدية بالقرب من أهل السنة، أو بالتسنن الكامل كما قد يعبر البعض، بل هناك علماء أكابر مترجمون في كتب الزيدية، ومعدودون في طبقاتهم، كالمحدث الرقيمي الصنعاني، من أهل القرن الثامن، له مؤلف في أحاديث الأحكام، وهناك العلامة البرطي، لا يقلان عن أولئك المشهورين في أوساط أهل السنة. وإنما اشتهر ابن الوزير ﻻنه كان يجادل شيخا متعصبا من شيوخه. ولم يكن الجميع على تلك الدرجة من التعصب، على أن شدة التمسك بالمذهب قد تعد عصبية ويمقتها البعض، ولم يخلُ منها رجال مذاهبنا السنية أيضاً، فالتعصب أمر نسبي.
ثالثا: قول
الكاتب وفقه الله: « وقبل أن تسهم وحدة اليمن في انتشار المذهب الشافعيّ». هذه
عبارة من أغرب العبارات، كسابقتها. ولا أدري لماذا يريد الكاتب أن ينسب شرف انتشار
المذاهب السنية لثورات سياسية معاصرة كان همها الأول التكالب على السلطة، وهل خرجت
اليمن من نظام الحكم الإمامي إلى نظام جمهوري كان نهايته ومصرعه على يد من أراد
توريث أبنائه الحكم!! ألا يعتبر الكاتب بمجريات الأحداث الراهنة!.
إن القول بأن وحدة اليمن
هي التي أسهمت في انتشار المذهب الشافعي في اليمن! لهي طامة تاريخية كبرى!. سبحان
الله! بين أيدينا طبقات ابن سمرة (كان حيا سنة 586هـ)، والسلوك للجندي (كان حيا
سنة 732هـ)، وتحفة الزمن للبدر الأهدل (ت 855هـ) .. كلها مصادر تاريخية من أهم ما
ألفه علماء الإسلام وعلماء اليمن بالخصوص، تتحدث عن انتشار المذهب الشافعي في رقعة
جغرافية من الأراضي اليمنية تفوق رقعة ومساحة المذهب الزيدي ... والخرائط المرفقة
توضح ما نريد قوله:
ترى! عن أي انتشار يتحدث كاتبنا الكريم!!
وبالمناسبة، فقد وجهت
عناية الكاتب الفاضل إلى كتابي «جهود فقهاء
حضرموت في خدمة المذهب الشافعي»، وهو في مجلدين، وفي مقدمته معلومات مهمة عن انتشار
المذهب الشافعي السني في عموم اليمن. ثم حضرموت.
* * *
العبارة الثانية، قال
الكاتب وفقه الله:
«وقد رسخ أمر الزيدية في
اليمن بعد أن أفلح يحيى حميد الدين في انتزاع ولاية اليمن من الأتراك، وأسس دولةً زيديةً
استمرّت حتى عام 1962م حين قامت الثورة اليمنية وانتهى بذلك حكم الزيديةِ ، وإن بقي
لمذهبهم حضور قويٌّ في اليمن».
تعليقي عليها:
أولا: إنها
لعبارةٌ، وللأسف، تضرب بالتاريخ اليمني كله عرض الحائط!. يقول الكاتب: إنه لم يرسخ
أمرُ الزيدية في اليمن إلا في مطلع القرن الرابع عشر الهجري!!. يا ويحَ مؤرخي
اليمن من زيدية وغير زيدية، ذهبت أدراج الرياح كل المؤلفات التي كتبت عن أئمة
اليمن الزيدية منذ دخول يحيى بن الحسين المتوفى سنة 298هـ، إلى المنصور يحيى بن
محمد حميد الدين! المتوفى سنة 1322هـ. كتب تعد بالعشرات، بل بالمئات، تتحدث عن
الزيدية مذهباً، وحكاماً، وعلماء .. كل هذا لا يسميه الكاتب (رسوخا)!! فما هو
الرسوخ إن لم تكن مسيرة مذهب ما لما يزيد على ألف عامٍ مثقلة بالأحداث والرجال
وووو .. !!
أقول .. لو قلب الكاتب، وفقه
الله، قبل أن يكتب مقاله، أقرب كتاب تاريخي في مكتبته العامرة، لعلم أن عدد أئمة اليمن بلغوا 68 إماماً،
وصفوا بالاجتهاد المطلق. ولن أكلفه أكثر من أن يذهب إلى كتاب أستاذنا السيد
عبدالله الحبشي «أئمة اليمن المؤلفون المجتهدون»، ففيه خلاصة مهمة، كما أن كتاب
القاضي العرشي «بلوغ المرام فيمن تولى حكم اليمن من ملك وإمام» مما لا يستغنى عنه.
وفي الرابط التالي، ما
يفيد حول تواريخ أئمة اليمن وسني ولايتهم:
ثانياً:
قوله «انتزاع ولاية اليمن من الأتراك». كأني بالكاتب الفاضل يريد أن يقول: إن اليمن كانت تخضع
لحكم الدولة العثمانية!. ومنذ متى كان للأتراك وﻻية عامة على اليمن!!. متى تهنأوا بحكم بعضها حتى يتم لهم حكم جميعها!.
وهنا أرشد الكاتب، وفقه
الله، إلى بعض المؤلفات في الموضوع، ومنها: الحكم العثماني في اليمن، لفاروق أباظة .. ومؤلفات د.
حسين العمري. وبلوغ المرام للعرشي. ففيها احاطة تاريخية تفيدكم في الباب.
وأضيف: إن اليمن جميعها
لم تدخل تحت الحكم العثماني إطلاقاً، إنما كان هناك تواجد للعسكر التركي في فترتين
زمنيتين متباعدتين جداً، الأولى: من 1539 إلى 1634 ميلادي. أي: 95 سنة. والفترة
الثانية: من سنة 1872 إلى 1911م، أي: 39 سنة فقط.
وخلال هاتين الفترتين،
لم يسيطر العسكر التركي إلا على رقعة بسيطة، تمثلت في زبيد والمخا وعدن، أما مرتفعات
اليمن الشمالية، فكانت عصية عليهم، وعندما طمعوا فيها تعرضوا لهجمات عنيفة، أقلقت
وجودهم، وكتب التاريخ شاهدة.
* * *
ما سبق .. كان مجرد
توضيحات تاريخية، لأن من واجب المؤرخين والكتاب في غمرات الأحداث أن يبتعدوا عن
الكذب والتشويه، لأنه سبة عليهم تبقى مدى الدهر. وهل بلغت مصنفات نصر المنقري
ووالواقدي والمسعودي ذروتها في عدم المصداقية، واتهام مؤلفيها بالكذب إلا لأنها كتبت بصبغة طائفية مقيتة، هل نريد أن
نكرر تجربتهم في هذا الزمان!!.
إن على الكتاب
والمؤرخين واجباً كبيراً، وهو التحلي بحلية الإنصاف، والقارئ حصيف، والناقد بالمرصاد،
اللهم ارزقنا الإنصاف، وحلنا بحلية العفاف. وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد
وآله وصحبه أجمعين.
* * *