نظرة باحث إلى مصادر التاريخ الحضرمي
بقلم/ د. محمد أبوبكر باذيب
التصوف،
الكرامات، مناقب الصوفية، مواضيع ساخنة لا تلبث أن تعود إلى واجهة النقاشات
البينية في المجموعات، ومن قبل في المجالس والندوات واللقاءات. عدا ما كتب عنها من
قبل باحثين في مجالات شرعية مختلفة.
مصادر
تاريخ حضرموت، هي محور الحديث بين الباحثين والدارسين لتاريخ تلك المنطقة القابعة
في أقصى جنوب جزيرة العرب، ومرد ذلك إلى أن بعض الناس اليوم راحوا يبحثون عن
تواريخ أجدادهم، وذهبوا للتنقيب عن سير أهلهم وأسرهم وماضيهم، فيصطدمون بفراغ هائل
يسيرون فيه على غير هدى، ولا يجدون في تلك المتاهات شيئاً يتمسكون به إلا النزر
اليسير، ويجدون في الجانب الآخر تاريخاً مضيئاً رائعاً يمتد إلى قرون، فيه من
التراجم والسير والمناقب والأخبار ما يبهر الناظرين، ويسر الباحثين. ولكن ذلك
الجانب المدون لا يسد عندهم المسد، ولا يبلغ بهم الأمل .. فراحوا يطعنون فيه بشتى
الوسائل الممكنة، بوصفه تاريخاً متحيزاً تارة، أو بوصفه تاريخا صوفياً يغلب فيه
تقديس الأشخاص، أو بغير ذلك.
هذا
جانب، وجانب آخر، أن أولئك الباحثين الذين تاهوا في البحث عن هوياتهم، لم يكلفوا
أنفسهم عناء البحث والتقصي للتراث التاريخي الحضرمي، واكتفوا بما وجدوه ماثلا
أمامهم مطبوعاً، وقلة منهم سارت إلى المخطوط، وليس هذا كل التراث، بل لا يزال
الكثير منه محجوب لأسباب اجتماعية كثيرة، ومنه ما فقد، ومنه ما يحتفظ به أهله إلى أمد
ما.
تلك
الأسباب، وتلك الشئون التي تثور ويثير عجاجها أشخاص ناقمون على التاريخ والمجتمع،
هي مما يؤسف له جداً، لأن أكثرها ثار لأغراض نفسية، ومطالب شخصية لا غير.
وهذا
الحوار الذي دار بيني وبين أخ كريم، هو الأستاذ باسل باعباد، وفقه الله، في إحدى
مجموعات التواصل، يلخص وجهة نظري فيما يدور، بناء على منشور كتبه، قمت بالتعليق
عليه، وها أنا أنشره للعموم، عسى أن يستفيد منه من يقرأه، أو يعلق عليه من يثري
النقاش والحوار بشيء جديد، وبأفكار ناضجة.
منشور أ. باسل باعباد والتعليق عليه
(التاريخ
كتبه أشخاص ولم ينزل به وحي...
والتاريخ
الحضرمي مليء بالثغرات..... في مقابل كم كبير من كتب المناقب والكرامات التي تشطح
بعضها إلى مرتبة الخيال، وهي الكتب التي وصفها الأستاذ عبدالله الحبشي في مقدمة
تحقيق تاريخ شنبل الطبعة الثالثة 2007 بالقول: (ولم تبق سوى كتب الكرامات والمناقب
وهي لا تغني عن التاريخ شيئا) وقد عتَبَ على الخطيب صاحب الجوهر الشفاف ميله نحو
هذا الجانب رغم أنه كان بمقدوره صياغة تاريخ أفضل، لا أتذكر العبارة جيدا وأظنها
من مقدمة كتاب البهاء في تاريخ حضرموت..
لهذا
ستظل هذه الكتب مادة خصبة للنقد والمراجعة والاستكشاف والدراسة التحليلية العميقة،
بل وإعادة التحقيق خصوصا ان بعضها طبعت بدون تحقيق، وهذا الشيء لا يغضب ولا يمكن
أن يكون مدعاة للنفور أو الغضب..
ونلاحظ
من البعض من الخلف امتعاضا ورفضا لإعادة القراءة التاريخية باعتبار أن التاريخ
الحضرمي تمت كتابته، وفي حقيقة الأمر كتابة التاريخ الحضرمي ما تزال في بداياتها،
وما كتبه السقاف والحداد والحامد وباوزير وبامطرف يمثل البدايات وكتب بمنهجيات
عصرهم أو استمرارا لمناهج سابقة. لهذا؛ التاريخ الحضرمي محتاج إلى كتابته بمناهج
حديثة متزنة، خصوصا أنه بدأت تظهر كتب جديدة لم تحقق من قبل، لعلها تجاوزت ما
أسماه د. باذيب في تعليق سابق (قمة الجليد)..
ولم
يكن تاريخ حضرموت تاريخ اسرة او قبيلة بل تاريخ شعب صنعه الكل بدءا من أكبر سلطان
إلى أصغر حرفي، وليس النقد موجهًا لأحد دون أحد، بل ما ينبغي أن يكون شخصيا أو
يفهم على أنه مفصل على أقوام بعينهم، ونقد الآثار والكتب مسلك قديم ولم يبدأه
باعيسى ولن ينهيه ..
محتاجين
نظرة جديدة).
*ملخص المنشور*
الذي فهمته من منشور
الأخ الكريم أ باسل باعباد:
1- أن مصادر تاريخ
حضرموت مليء بكتب المناقب التي تقترب من الخيال، الخ كلامه. وأن هناك عتباً من
باحثين معاصرين على المتقدمين أنهم تركوا السبيل الأفضل لكتابة التاريخ.
2- أن تلك المصادر لا
تزال معيناً لا ينضب لمن تصدى لكتابة تاريخ حضرموت، وأن هذا الشيء لا يغضب ولا يمكن أن يكون
مدعاة للنفور أو الغضب
3- هناك من يرفض
إعادة قراءة التاريخ بحجة أنه كتب بأقلام متحيزة. وهذا أمر مردود، لأن مصادر تاريخ
حضرموت لا تزال تظهر يوماً بعد يوم. ولا يمكن الجزم بأن الموجود بين أيدينا هو كل
ما كتب، ولا كل ما وصل.
4- قال بالحرف: (ولم يكن تاريخ حضرموت تاريخ اسرة او
قبيلة بل تاريخ شعب صنعه الكل بدءا من أكبر سلطان إلى أصغر حرفي، وليس النقد
موجهًا لأحد دون أحد، بل ما ينبغي أن يكون شخصيا أو يفهم على أنه مفصل على أقوام
بعينهم، ونقد الآثار والكتب مسلك قديم ولم يبدأه باعيسى ولن ينهيه). وهذه فقرة جميلة وواضحة تمام الوضوح سوى آخر كلمة منها.
*أقول، وبالله التوفيق*:
التعليق على الفقرة
الأولى: ليس التاريخ الحضرمي وحيداً بين تواريخ الأمم والشعوب الأخرى في تضمنه كتب
المناقب والكرامات، ولا نظر إلى عتب من عتب البتة، لأن ذلك العتب لا مجال له في
باب النقد ولا التحليل العلمي للظاهرة المناقبية، فهي واقع موجود ماثل للعيان.
ويبقى العتب وجهة نظر تخص كاتبها. المؤرخ والباحث بين يديه مصدر يعد مادة (خام)
أصلية عليه أن يجيل النظر فيها ويستخلص منها الحدث والفائدة التاريخية، ويترك ما
سواها من أدبيات الكرامة فليس ملزماً أن يوظف حدث الكرامة في بحثه، بل يكفيه توظيف
الحدث المجرد، وهذا ما فعله كثيرون، منهم العلامة ابن عبيدالله السقاف في (إدام
القوت) وفعله غيره أيضاً، يؤخذ من مادة الكرامة الأسماء والأحداث ويربط بينها
بنسيج تاريخي يتوافق ويتلاءم مع الجو العام للحدث ولزمن وجود الشخصية. وبهذا
يستفاد من كتب المناقب والكرامات الاستفادة المثلى.
التعليق على الفقرة
الثانية: نعم، تلك المصادر معين لا ينضب، يستقي ويمتح منه كل باحث بحسب وجهته
وموضوع بحثه. ومن نفر أو غضب فهو وشأنه.
التعليق على الفقرة
الثالثة: المصادر لا تزال تظهر يوماً بعد يوم، والمخطوطات النادرة تم العثور على
جملة غير قليلة منها. وبهذا فإن إعادة كتابة التاريخ أمر لا مفر منه، شاء من شاء
وأبى من أبى. والنظرة القاصرة التي اتصف بها بعض حملة الأقلام، واتهموا التاريخ
الحضرمي وكتابه بأنهم متحيزون، نظرة لن تلبث أن تتلاشى مع قدوم سيل الأبحاث
العلمية الرصينة الذي وصلت تباشيره إلى ميدان البحث العلمي، وأضيفت إلى رصيد
المكتبة التاريخية الحضرمية، ولا تزال مقدمة ذلك السيل تتقدم وتغمر الفجوات التي
لم تسد من قبل شيئاً فشيئاً.
التعليق على الفقرة
الرابعة: قوله (ولم
يكن تاريخ حضرموت تاريخ اسرة او قبيلة بل تاريخ شعب صنعه الكل بدءا من أكبر سلطان
إلى أصغر حرفي)، إنها لعبارة رائعة
جداً، تستحق أن تكتب في لوحة بخط جميل. صدقت وبالحق نطقت أخي الكريم أ باسل. هذه
هي النظرة الجميلة والتي يجب أن يتحلى بها كل مثقف حضرمي يحب وطنه ويتشرف بتاريخه
وبالجوانب المشرقة فيه.
وكما تفضلت فالنقد لا
ينبغي أن يوجه لجهة أو قوم أو أشخاص دون غيرهم، (أو يفهم على أنه مفصل على أقوام
بعينهم)، هذا ما نقوله
ونسعى إلى توعية الناس به. إن قوماً كانت لهم سابقة التدوين، ولهم اليد الطولى في
حفظ التاريخ بوقائعه وأشخاصه، لقوم جديرون بالشكر والثناء، لا برميهم بالتحيز
والبهتان. وما شأنهم إذا كان غيرهم قصر في الكتابة والتدوين؟! إن الثلب المتكرر
والنقد المسلط على جهة واحدة وتسليط الضوء على ما يعد تنقيصاً أو استحقاراً
لجهودهم، أمر مؤسف، وينبغي أن يزول من الواجهة، وأن يعمل المثقفون الشرفاء
الواعون، الحريصون على وحدة الصف، وعلى لحمة أبناء الوطن الواحد، على تجاوزه
والاعتلاء فوق الأغراض الشخصية التي يحققها حملة الأقلام للتنفيس عما يجول في نفوس
بعضهم لا لشيء إلا لغرض شخصي يحمل في طياته نفثات وحمماً تحرق ما أمامها، وما هذا
شأن العقلاء والمخلصين.
وأما النقد التاريخي،
فإذا جاء من أهله، ووقع في محله، فهذا هو عين المطلوب، أما إذا جاء على شكل آهات
وسباحة في الخيال، واستنطاق لما وراء السطور، فهذا ليس من شأن المؤرخين، وليس
أمراً مقبولاً في كتابة التاريخ. بل مجاله الأدب والقصة والرواية، وهذا مجال بعيد كل
البعد عن التاريخ الذي ليس إلا حقائق تنقل، وأحداثاً وأشخاصاً شكلوا لبنات في بناء
التاريخ حدثاً وإنساناً. ولا تهولنك الألقاب ولا المناصب التي يتبوأها أشخاص وضعوا
في غير مواضعهم، فالرجال هم الذين يعرفون بالحق لا العكس، ومن تكلم في غير فنه أتى
بالعجائب، ومن كتب أو ألف فقد استهدف، فليحذر وينتبه لما يخطه قلمه كل من حمل القلم
من الزلل، والولوج في غمرات أمواج لا قبل له بها. والله الموفق.
كتبه/ محمد باذيب
فجر الثلاثاء 13 شوال 1442