الجمعة، 4 أبريل 2014

محاضرة بعنوان: مميزات مدرسة الساحل الحضرمي الفقهية. للشيخ الفاضل سالم باقطيان


محاضرة بعنوان:
مميزات مدرسة الساحل الحضرمي الفقهية

الحمد لله , والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله , و على آله وصحبه ومن والاه .
وبعد:
فمما لاشك فيه أن مدرسة الساحل الحضرمي (المكلا – الشحر – غيل باوزير –  الحامي – الديس الشرقية  – وغيرها)، فرع  من  المدرسة  الحضرمية  السنية  الشافعية الاشعرية الصوفية العلوية , لكنها أكثر انفتاحا من المدرسة التريمية الأم , وان كانت متصلة بها ومستمدة منها خصوصا في القرنين الأخيرين (الثالث عشر والرابع عشر الهجريين).
فقد تلقى علماؤها علمهم  وتخرجوا على علماء مدرسة تريم وسيئون وغيرهما من فروع المدرسة الحضرمية , وقد ظهرهذا الانفتاح  في فتاوى  شيوخها ومعاملاتهم  مع  الجمهور , و لكنه  أكثر ظهورا في صياغة القانون الشرعي لمحاكم السلطنة القعيطية , الذي يحتوي على حوالي مئة مسألة اختيرت للحكم بها في المحاكم  الشرعية على خلاف معتمد  مذهب الامام الشافعي المعمول به في المحاكم الشرعية الحضرمية  عموما  منذ مئات السنين.
تمثل هذه المسائل المختارة اختيارات سابقة لفقهاء حضرموت جرى العمل بها في محاكم القطر, وجرت عليها الفتوى كبيع العهدة , واختيارات لفقهاءالساحل المتأخرين اقتضت المصلحة الشرعية العمل بها لتيسير معاملات الناس ورفع الحرج عنهم , وعلاج مشكلات اجتماعية واقتصادية و سياسية طرأت على المجتمع في فترة ما.
أبرز أولئك الفقهاء أصحاب الاختيارات المشار إليها، هم:
1- العلامة الكبير السيد : محسن بن جعفر ابو نمي , شيخ القضاة وتلميذ العلامة الكبيرالشيخ محمد بن عمر بن سلم شيخ رباط الغيل وخريج الجامع الأزهر, و الذي نافت مؤلفاته، أعني: السيد محسن، على مائه و عشرين مؤلفاً، لم يطبع منها الا القليل.
2- والعلامة الكبيرالشيخ : عبدالله بن عوض بكير رئيس المجلس العالي للقضاء لأكثر من ثلاثين سنة , وتلميذ العلامة عمربن مبارك  بادباه  تلميذ الحبيب علي بن محمد الحبشي وبركة الساحل الحضرمي.
3- والعلامة الشيخ : محمد بن عبدالله بن سعيد باجنيد خريج الجامع الأزهر وتلميذ الشيخ محمود شلتوت شيخ  الجامع الأزهر و أحد أعمدة المدرسة الاصلاحية المعاصرة.
4- والعلامة الشيخ : علي بن سعيد بامخرمة قاضي مدينة غيل باوزير وأحد خريجي رباط (بن سلم) بالغيل.
5- والعلامة الشيخ : سالمين بن سعيد بن عبد الله شطر قاضي مدينة الشحر , وتلميذ العلامة الكبيرالشيخ : أحمد بن عوض المصلي كبيرقضاة الشحر وأحد أبرزعلمائها.
6- يضاف اليهم سلطان الدولة القعيطية العلامة السلطان : صالح بن غالب بن عوض القعيطي, تلميذ العلامة الكبيرالسيد : أبي بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين , وخريج  كلية الهندسة بألمانيا, والذي كان يتقن التحدث بثمان لغات. كما كان يتقن كثيرا من العلوم العصرية منها الهندسة الميكانيكية والجيوليجية وهندسة الاتصالات , والفلسفة , والفلك , وعلوم البحار , الذي أصدر مرسوما بتلك المسائل حتى أصبحت  قانونا  شرعيا يعمل به  في  محاكم السلطنة .
* * *
مصادر المسائل المختارة:
وقد جمعَتْ تلك الاختيارات في أكثرها من داخل مذهب الامام الشافعي من مقابل الأظهر والمشهور, ومقابل الأصح، ومسائل القديم، واختيارات أصحاب الوجوه.
ومنها ماهو مأخوذ من المذاهب الثلاثة مجتمعة أو من بعضها ,
وهناك مسائل قليله أخذت من خارج المذاهب الأربعة.
وقد كان شيخنا  العلامة السيد/ عبدالله بن محفوظ الحداد ( رحمه الله ) يفتي بكثير من هذه الاختيارات:
-       كجعل الطلاق الثلاث في مجلس واحد طلقة واحدة.
-       وجواز الصلح مع الإنكار.ط
-       والقول بجوازالبيع ونحوة بالمعاطاة.
-       وجواز شركة الأبدان.
بل وكانت له اختياراتٌ أخرى مقاربة لها، كان يفتي بها توسعة على الناس, منها على سبيل المثال:
1- الأخذ بمذهب  اللقْط  في  الحيض.
2- وموافقته  للطب الحديث بأن الحاملَ لا تحيض.
3- وتسهيله في بعض المعاملات المالية المعاصرة؛ كجواز بيع العملة  الورقية من جنس واحد ببعضها مع التفاضل. وألف في ذلك رسالة في الردعلى القائلين بأن هذه المعاملة ربا.
4- وفتواه بجواز التعزير بالمال.
5- وفتواه باباحة سماع الآلات الموسيقية أخذا بمذهب ابن جريرالطبري , وألف في ذلك رسالة.
وغير ذلك من المسائل .
* * *
أيّد القانونَ الشرعيَّ القعيطي عددٌ من علماء الوادي (الداخل)، أبرزهم:
1- العلامة الكبير مفتي حضرموت السيد/ عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف.
2- والعلامة الكبيرالسيد/ محمد بن أحمد الشاطري.
ومن خارج القطر الحضرمي , بل من خارج البلاد العربية: البروفيسور / أندرسن المستشرق البريطاني، والاختصاصي في الشريعة الاسلامية ومدرسها بجامعة كمبردج. الذي زار حضرموت وتباحث مع علمائها في الساحل والداخل سنة : 1950م.
* * *



أسباب انفتاح مدرسة الساحل الحضرمي

بعد العرض الموجز للقانون الشرعي القعيطي ..
نعود  الى أسباب انفتاح مدرسة الساحل الحضرمي أكثر من المدرسة الحضرمية الام (مدرسة تريم ومن تأثر بها) , ونوجزها فيما يلي :
السبب الأول: اشتغال أكثر علمائها بالقضاء.
فقد عمل أكثرعلماء الساحل الحضرمي في القضاء منذ وقت مبكر , و كما يقول المثل : (القضاء يفقِّه) , بل ان القاضي بالاضافة الى فقهه الشرعي يحتاج الى معرفة عادات الناس وتقاليدهم , وانزال الاحكام الشرعية وفق الواقع المعاش , فالقضاء يوسع مدارك الفقيه ويبصره بحلول مشاكل عصره أكثر من المفتي. أضف الى ذلك أن بعض السابقين، بل والمعاصرين، عمل في القضاء خارج حضرموت فأتاح ذلك له الاحتكاك المباشر بالمدارس الفقهية الاخرى , ودراسة البيئة التي يعملوا فيها وتقاليدها وثقافتها , حتى ان بعضهم نقل بعض المسائل المخالفة لمعتمد المذهب كالشيخ باشكيل الذي تولى القضاء بزبيد ولما عاد الى حضرموت نقل معه القول بجواز بيع العهدة والقضاء به في المحاكم , وعنه انتشر في سائر حضرموت .
السبب الثاني: احتكاكهم بالمدارس الفقهية الأخرى.
فقد درس كثير منهم دراسات عليا خارج حضرموت , ومزجوا بين ما تربّوا عليه داخل حضرموت، وماتلقوه خارج حضرموت.
ومن أبرز من تتلمذ خارج المدرسة الحضرمية:
1- العلامة الكبير محمد بن عمر بن سلم، شيخ رباط الغيل، فقد تخرج من جامعة الأزهر, وعليه تتلمذ كثير من الطلاب في الساحل الحضرمي، أبرزهم العلامة الكبير السيد/ محسن بن جعفر أبو نمي.
2- ومنهم العلامة الكبير الفقيه الاصولي المحدث السيد/ علي بن محمد بن يحيى خريج الازهر ورئيس المعهد الديني بغيل باوزير أواخر عهد الدولة القعيطية.
3- ومنهم العلامة الكبير الشيخ عبد الله بن عوض بكير رئيس المجلس العالي للقضاء القعيطي لأكثر من ثلاثين سنة , فقد تخرج مبكرا على العلامة الشيخ /عمر بن مبارك بادباه تلميذ العلامة الحبيب علي بن محمد الحبشي , وبركة الساحل الحضرمي , ثم سافر – الشيخ عبد الله – الى الصومال وهناك التقى بكثير من العلماء صوماليين وغير صوماليين أزهريين وغير أزهريين , وتتلمذ على بعضهم، وتباحث مع آخرين.
4- ومنهم شيخنا العلامة السيد/ عبد الله بن محفوظ الحداد الذي تخرج من كلية الشريعة بجامعة الخرطوم بالسودان وهو آخر رئيس للمجلس العالي للقضاء بالدولة القعيطية.
5- ومنهم العلامة السيد/ علي بن محمد مديحج رئيس محكمة الاستئناف بالمكلا سابقا , ومفتي المكلا اليوم , فقد تخرج من جامعة الخرطوم ايضا.
6- ومنهم العلامة الشيخ /عبد الرحمن عبد الله عوض بكير المفتش القضائي سابقا , وعضو هيئة الافتاء اليمنية اليوم الذي تخرج من جامعة الخرطوم ايضا. 
7- ومنهم العلامة السيد/ حامد المحضار وزير السلطنة القعيطية قبل معاهدة الاستشارة البريطانية , فقد تخرج من جامعة الازهر , وكان عالما كبيرا وسياسيا محنكاً, حتى خاف منه هارولد انجرامس أول مستشار بريطاني بحضرموت , فكان أول ضحاياه , وانما خاف منه لسعة علمه وشدة وطنيته.
8- ومنهم العلامة الشيخ/ محمد عبد الله سعيد باجنيد خريج الازهر وتلميذ الشيخ شلتوت شيخ الجامع الازهر , وأول رئيس لمحكمة الاستئناف بالمكلا.
9- ومنهم العلامة السلطان صالح بن غالب بن عوض القعيطي , الذي تخرج في العلوم الشرعية بحيدر أباد الهند , ثم تخرج في علوم الهندسة وغيرها من العلوم العصرية بالهند واوربا , وتأثر بالمدرسة الاصلاحية المصرية مدرسة الأفغاني ومحمد عبدة ورشيد رضا .
السبب الثالث: توسعهم في دراسة العلوم المتنوعة.
كدراستهم لعلم أصول الفقه, وعلوم الحديث، وأصول التفسير, والفقه المقارن. وهذه نتيجة حتمية للدراسة في المدارس الخارجية والجامعات الحديثة. فعلم أصول الفقه علم عظيم يوسع مدارك الدارس له , ويؤثر ويتأثر بعلوم كثيرة منها : الفقه , وعلوم العربية : (النحو,الصرف, علم البلاغة:البيان,المعاني ,البديع, فقه اللغة) , والمنطق , واصول الدين , وعلوم الحديث وغيرها , وهو وسيلة هامة للوصول الى رتبة الاجتهاد ومعرفة قواعد الاستنباط , ومن يدرسه يضطر لمواكبة عصره في فقهه ومعاملته مع علوم الشريعة .
وكذلك دراسة  علوم الحديث واصول التفسير : مصطلح الحديث , ودراسة الاسانيد  , وعلم الرجال , والجرح والتعديل , وفقه الحديث , وتفسير آيات الأحكام , ومعرفة مناهج الفقهاء في التعامل مع النصوص , كل ذلك يوسع مدارك الفقيه .
يضاف الى ذلك دراسة الفقه المقارن الذي هو تطبيق عملي لدراسة أصول الفقه وعلوم الحديث وأصول التفسير , وفيه يعرف الفقيه مذاهب العلماء , واختلافاتهم الفقهية , والاطلاع على مختلف المذاهب , واستدلالاتها , واختلاف مناهج الفقهاء في التعامل مع النصوص , واسباب اختلافاتهم الفقهية , ولماذا رد من رد منهم الاحاديث الصحيحة , وكيف يستنبطون الحكم من النص , وكيف يطبقون مقاصد الشريعة اثناء الاستنباط , وغير ذلك من أنواع المعرفة .
السبب الرابع:  ما ساروا عليه من نقد أحكام القضاة.
فقد كان المراقب على أحكام القضاة ونقدها وتمحيصها هم المفتون من الفقهاء , فاذا أصدر قاض حكما فان من صدر ضده الحكم من الخصوم يذهب به الى أحد المفتين يستشيره فيه هل هو حكم صحيح أو فاسد. وغالبا ما ينتقد المفتي حكم القاضي ويصدر فيه فتوى , فيرد على الفتوى ذلك القاضي أو أحد مناصريه , ويرد على الرد آخر أو الاول. وهكذا يتداول الفقهاء حكم القاضي بالنقد والتصحيح حتى يستقر الحكم للتنفيذ أو النقض , وقد تطول المداولة الى سنة أو أكثر , وقد تتناول المداولة فتوى مفتي كذلك .
مثال الاول: قضية باعييس في دار طالبوا فيها بنصيب مورثهم , وحكما له بالارث العلامة السيد/ محسن بونمي, والعلامة الشيخ/ عبدالله بكير قاضيا المكلا في :25محرم سنة :1354هج , وأيد حكمهما العلامة السيد/ عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف مفتي حضرموت , واعترض على الحكم المذكور لجنة من الفقهاء برئاسة العلامة الشيخ/ محمد بن عوض بن طاهر باوزير , وردّ عليهم العلامة الشيخ/ عبد الله بكير في :15شعبان سنة :1356هجرية.
ومثال الثاني: مسألة تعلق الديون المرسلة في ذمة الميت بزوائد أمواله المعهدة , التي أفتى فيها العلامة الشيخ/ أحمد بن عوض المصلي قاضي الشحر في: 12صفر سنة :1350هجرية, وأيده عليها العلامة السيد/ محسن بونمي, والعلامة الشيخ/ محمد بن عوض بن طاهر باوزير, والعلامة الشيخ/أحمد بن محمد باغوزة, واعترض عليها العلامة الشيخ/ عبد الله بكير , وطال النقاش فيها , وانتهى في : 5ذي الحجة سنة :1350هج . 
هذا ماتيسر جمعه في هذه العجالة وأرجو المعذرة على التقصير , والعفو ان بدت هفوة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

كتبه الفقير الى عفو ربه المنان
سالم بن عبد الله بن سالم باقطيان
بتاريخ : 25جمادي الاولى :1435هجرية
الموافق : 26مارس :2014م

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق