كتب إلي أحد
الإخوة .. يقول:
دار بيني
وبين أخٍ عزيز نقاش حول المبالغة في وصف الدعاة إلى درجة العلماء ؛ بل الاستغراب ممن
لا يقبل لهم هذا الوصف ؛ وكأنني أقصد انتقاصهم ، أو حسدًا لهم!!
فقال لي:
مثل من ؟
قلتُ له:
مثل الداعية الشيخ فلان ،
الرجل لم
يستوعب كلامي !!. وقال مستنكرًا: هو معروف بالعلم ودرس عند المشايخ فلان، وفلان ...
إلخ. وانقطع النقاش اضطرارًا ، على أن نكمل لاحقاً.
سؤالي:
ما هي المعايير المنصفة المنضبطة المقبولة للجميع لصحة وصف الشخص و: "العالم"؟
وما هو السلّم الذي ينبغي أن يكون سلكه حتى وصل إلى درجة العالم.
أقول لأخي
العزيز ولكافة القراء ..
كنت وعدت
بالكتابة مرة أخرى حول هذا الموضوع. ولامانع من العودة إليه مرة أخرى.
بعض المتابعين
لما كتبته سابقاً ظنوا أن النقد والمتابعة الحثيثة لإصلاح صفوفنا الداخلية تكمن في
الأخذ على أيدي شباب تصدروا للدعوة أو للوعظ العام، مع نقص الإمكانيات العلمية، وحسب.
وظنوا أن الكلام منصب على فئة (الشباب).
وهذا غير
صحيح .. إنما نقدنا
هو لمن فقد معيار ما يخوله أن يسميه الناس (عالما). ولو كان من لابسي أفخر المشالح،
وأكبر العمائم. العلم لا يعرف صغيراً ولا كبيراً، ولا ذكراً ولا أنثى، ولا سيداً ولا
مسوداً. العلم شريف في نفسه، يبني من العدم بيوتاً، والجهل يهدم بيت العز والشرف.
وهل تظنون
من يتسمون في زمننا هذا بمحدثي العصر، ومفاخر الدهر، ومحققي الأوان، وغير ذلك من الألقاب
.. بمعزل عن النقد، وبمنأى عن أن تطالهم أقلام الناصحين. فليكنوا من أهل الحديث، أو
من السلفيين، أو الصوفيين، أو أي فئة أو طائفة من طوائف المسلمين العديدة، ميزان العلم
لا يختلف من فئة الى أخرى، ولا من طائفة الى غيرها. إما علم، وإما جهل.
... ماهي
المعايير؟
السؤال هنا
عن المعايير المنصفة المنضبطة المقبولة للجميع لصحة وصف الشخص و: "العالم"
؟ وما هو السلّم الذي ينبغي أن يكون سلكه حتى وصل إلى درجة العالم.
نعم .. نريد
أن نحدد معايير العالم من غيره.
أما من حيث
العلم الإجمالي، الذي يخرج به الشخص من حيز الجهل المطلق الى سعة العلم الجزئي .. فتعلم
ما يجب معرفته من الدين بالضرورة. واكتساب بعض المعارف التي تنفي عنه صفة الأمية والجهل.
ولكن هذا
لا يرقيه الى مرتبة العلمية الخاصة.
فمن هو العالم؟!
أجاب الإمام
الشافعي عن هذا السؤال، ووضع أهم المعايير التي ينبغي لطالب العلم أن لا يخلي منها
عمره، ولا تحصيله. في قوله:
أخي لن تنال العلم إلا بستة ** سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ** وصحبة أستاذ وطول زمان
فأولها:
الذكاء، واتقاد الذهن، وجودته. لأن به يستطيع الإنسان تمييز العلم النافع له من غيره,
فيحرص على جودة التحصيل، ونبذ ما لا يفيد.
الثاني:
الحرص. أي على اغتنام العمر، لأنه إن ذهب خلياً في أوله، لم يفلح صاحبه في آخره. كما
قال الشاعر:
وهل موسم إلا الشباب فإن مضى ** خليا، فباقي العمر يتلوه قافيا
الثالث:
الاجتهاد. والمراد هنا الجد في الطلب، وعدم الكسل. وليس الاجتهاد الاصلاحي عند الأصوليين.
وأخبار السلف في الجد في التحصيل كثيرة، يكفي لمعرفتها مطالعة كتاب العلامة الجليل
الشيخ عبدالفتاح أبوغدة رحمه الله (صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل).
الرابع:
البلغة. أي: تحصيل القدر اللازم من المال الذي به يكتفي الإنسان عن الاحتياج الى الغير،
مما يلزم منه التذلل لهم، وبقاؤه في ربقة الانصياع والائتمار للغير.
الخامس:
صحبة الأستاذ. وهذه أهم المهمات، فمعرفة الشيوخ، وحسن انتقائهم، والتوافر على معرفة
شيخ مربي تقي نقي عالم صالح، أمر لا يكون إلا بالتوفيق. ولا يتأتى التوفيق إلا مع الإخلاص
في طلب الشيخ.
السادس:
طول الزمان. وهذا قل من يتنبه إليه. فليس العلم يؤخذ في دورة صيفية من ذوات الأربعين
يوماً، ولا في حضور درس شهري أو أسبوعي. نعم، تلك أمور مفيدة، تعين على معرفة أول الطريق،
ولكنها وسيلة لما بعدها، وليست غاية. فالأحمق من ظن أنه بحضوره دورة في علم الحديث
لمدة شهر سيصبح محدثا، أو بمجرد حضور مجالس سماع الصحاح في مدة معلومة سيصبح من أهل
العلم. وكذلك من ظن أن تحصيل الإجازات يغنيه عن القراءة والتحصيل والطلب.
تلك أمور
حسنة، ولكنها إذا عدم صاحبها التوفيق، والنظر الى ما بعدها وما وراءها، من ركوب متن
الصبر، وامتطاء ذروة العزيمة والمجاهدة لبلوغ أعلى المراتب .. فإنها تكون مضيعة للعمر،
مجلبة للسخط والفساد.
قال الإمام
الحداد في (النصائح الدينية و الوصايا الإيمانية): "وأما الاتساع في العلوم الدينية
النافعة ، والاستكثار منها، والزيادة على قدر الحاجة، فذلك من أعظم الوسائل إلى الله،
وأفضل الفضائل عند الله، ولكن مع الإخلاص لوجه الله في طلب العلم، ومع مطالبة النفس
بالعمل بما تعلم . وتعليمه لعباد الله، مريداً بذلك كلّه وجه الله والدار الآخرة"
[ (ص: 98)].
والكلام يطول
.. وخلاصة الأمر: أن من خلا عن تلك الأمور الستة التي ذكرها سيدنا وإمامنا الشافعي
رحمه الله، فهو دعي في العلم، واليوم نرى أناساً يصدرون ويقدمون للناس، ويوصف الواحد
منهم على أنه (محدث العصر)، وهو لم يلزم شيخاً واحداً، ولم يعكف أو يجث بركبتيه في
مجلس شيخ، بل منهم من نشأ عاقاً لأبيه، مكباً على الصحف والكتب، وظهرت على يديه منافع
ظاهرة، ولكنها مشوبة بما فيه تفريق للمسلمين، وتهجم على عامتهم، وتطاول على سلفهم،
وإزراء بما عليه الأمة من تقليد لمذاهب دينية فقهية راسخة، فخرج الناس بسبب الجرأة على أهل العلم، من تقليد الشافعي
الى تقليد الوادعي، ومن تقليد أبي حنيفة النعمان الى تقليد قاضي بني شوكان. وهلم جراً.
ومنهم من
برز بمظهر الوعظ، وأجاد الكلام على شاشات التلفاز، وأصبح يقدم نفسه على أنه مصدر لمعرفة حديث الرسول، ولفقه
السلف الفحول، فكل ما يقوله ذلك المنطيق، فهو خلاصة وعين الدين، وما سواه فهو الضلال
المبين. فافتتن به الشيب والشبان، والعجائز والصبيان. وأصبح مرجعهم: حلقة الشيخ فلان، على شاشة قناة الإيمان، في ليلة الخامس من رمضان!! وضاع بذلك فقه الشافعي وأبي
حنيفة النعمان، في زمن تشيخ الغلمان. والى الله المشتكى من هذا الحال .
فما هو الحل؟
الحل، هو
أن يتجه الإعلاميون الى إبراز الواجهات العلمية الأصيلة، وأن يعودوا بالناس الى منابع
العلم الراسخ، بتوجيه الأنظار الى المصادر الدينية الثابتة، التي حفظ الله بها دينه
على مر العصور، وأن يعملوا على توثيق اتصال الناس بمصادر العلم الكبيرة، وأن يقوم أهل
الغيرة بإسكات المضللين والمضللات، من أشباه العلماء والعالمات، وأن لا يسمح بالوعظ
إلا لمن استكمل أدواته، وأجيز بالتصدر والوعظ من حملة العلم وحماته، وأتم دراسة وحفظ
المقررات الموضوعة على أيدي ثقاته، وإلا بقينا في العمه والتيه، وفي مثال الحمار ذي
الأسفار كفاية لكل نبيه.
ومن مقترحات
السلم التعليمي لطالب العلم (شافعي المذهب):
- حفظ القرآن الكريم أو ما تيسر منه، مع إتقان تجويده.
- دراسة علوم القرآن، من كتاب مختصر فيها، مزبدة الإتقان،
أو مباحث للقطان، أو التبيان للصابوني.
- قراءة الكتب الستة، إن تيسرت، أو الصحيحين على الأقل،
مع الموطأ برواية يحيى. ثم التوسع لمن أراد، بقراءة المسند الحنبلي، وما وراءه. كما
يجب عليه تطلب قراءة كتب الموضوعات، وعليه بالمصنوع والمنار المنيف بتحقيق الشيخ عبدالفتاح،
والمقاصد الحسنة، وكشف الخفاء للعجلوني. وغيرها من المطولات كاللآلئ المصنوعة للسيوطي،
والفوائد المجموعة للشوكاني، ثم تنزيه الشريعة للكناني، وغيرها.
- دراسة العقيدة، من متن الطحاوية، وبعض شروحها كشرح الميداني.
أو النسفية مع شرح السعد وبعض الحواشي عليها، أو الجوهرة مع شرح الباجوري. أو الخريدة
مع شرح الصاوي. أو السنوسية وشرحها الكبير. ويطالع مع ذلك بعض كتب الردود والمقالات،
ومن أهم ما ينبغي طلبه في هذا الباب مقالات العلامة الكوثري، وسائر كتبه الأخرى.
- دراسة النحو من الأجرومية مع التحفة السنية لمحيي الدين،
فالملحة وبعض شروحها، فالمتممة مع الكواكب، فشرح القطر، فابن عقيل مع حفظ الألفية إن
تيسر. ثم مطالعة التسهيل وشرح عليه.
- دراسة علوم اللغة. من المعاني والبيان والبديع والبلاغة،
فيحفظ متن الجوهر المكنون، ويقرأ شرحه، وحواشيه، والتلخيص للقزويني وشرح السعد، وينظر
في المطولات، وفي مصنفات المعاصرين المفيدة في الباب.
- دراسة علم المنطق، من إيساغوجي، وشروحه وأهمها شرح شيخ
الإسلام زكريا، ثم السلم المنورق وشروحه، فالشمسية وشرحها للقطب، وألفية ابن شهاب وشرحها
نظام المنطق.
- دراسة الفقه بدءا بالمختصرات، كالسفينة وأبي شجاع، مع
ابن قاسم، فالمقدمة مع المنهاج القويم أو بشرى الكريم، ثم فتح المعين، فالعمدة، ثم
المنهاج مع المغني، ثم التحفة. فمطالعة التنبيه والمهذب.
- دراسة الأصول: بدءا بالورقات، فشرح الحطاب عليها، فنظمها
للعمريطي مع شرحه، فمراقي السعود وشرحه نشر البنود، فلب الأصول مع شرحه الغاية، فالمنهاج
الأصولي مع شرح الإسنوي، فجمع الجوامع مع مطالعة حاشيتيه. ثم قراءة ومطالعة المطولات
كالبرهان والمستصفى، ودراسات المتأخرين وتلخيصاتهم كأبي النور زهير، والوجيز لهيتو،
وأمثاله من المعاصرين.
- دراسة علوم الحديث، بدءا بالبيقونية وشروحها ومن أجودها
شرح العلامة عبدالله سراج الدين، فالنخبة وشرحها وحواشيها، فالمقدمة الصلاحية وشرحها
ونكتها للحافظ ابن حجر، فتدريب الراوي، فتوجيه النظر للجزائري وظفر الأماني للكنوي،
وبقية رسائله ومصنفاته التي أخرجها العلامة أبوغدة، رحمه الله. كما أن كتب الأثبات
والأسانيد لا يخلو النظر فيها من فوائد لمن تطلبها.
- ثم بعد ذلك يطالع كتب التاريخ، بدءا بالسيرة النبوية،
فيقرأ سيرة ابن هشام، فالسيرة الحلبية، فسيرة الدحلان، فما فوقها كسيرة الصالحي. ثم
يطالع تاريخ الطبري، والبداية لابن كثير، فكتب الصحابة كالاستيعاب والإصابة. وكتب التراجم
لمتأخر القرون، وتاريخ أهل بلده وأعلامهم، وأجداده إن كان من بيت علم، ليحصل له التأسي
بهم. ولا يخلي يده من كتاب (الأعلام) للزركلي لفائدته.
- ثم ينظر في كتب البلدان، ككتاب ياقوت، وابن الفقيه،
وكتب المواضع كمعجم ما استعجم، والروض المعطار، وكتب الرحلات.
- ولا يخلي وقته من النظر في كتب الأدب، وحفظ المعلقات،
والمقامات الحريرية والبديعية، ويحفظ ما تيسر من شعر الجاهليين، فالمحْدَثين كالمتنبي
وأضرابه، ويطالع في كتب الأمالي لفائدتها، كأمالي ابن الشجري، والقالي، واليزيدي. ومعجم
الأدباء لياقوت، وكتب الأدباء المعاصرين كالرافعي ومحمود شاكر، وأمثالهم من أهل مصر والشام، وهلم جرا، والباب واسع جدا.
فإذا ما حصل
الشخص هذه الكتب، ورقى في ذلك السلم التعليمي، أو ما يماثله، كانت الثقة بوعظه، وتمكن
من التربع على كرسي الإرشاد والإفتاء والتعليم، وكانت له الصدارة عن جدارة .. ويعرف
العالم بسمته، ورسوخه، ورزانته وبعد نظره، وتأمله في الوقائع والأحداث، ولا يعجل بالكلام
دون النظر في محتوشات الأمور، نعوذ بالله من الغرور.
وغير من تقدم وصفه، هو المتعالم: وهو شخص يدعي حيازة هذه العلوم، والاطلاع على منطوقها والمفهوم، ولكنه ينكشف عند
الامتحان، وعند مطالبته بمقروءاته وذكر شيوخه.
أما الواعظ
.. فهو دون ذلك بكثير، فيكفيه معرفة ضروريات الدين،
وقراءة بعض كتب الرقائق والسلوك، وشروح بعض كتب الحديث، وحفظ بعض مقالات الصالحين،
والتدرب على الكلام والخطابة، وإن أضيف إليه شيء من الذكاء واللباقة، كان ذلك حسناً.
ووصف الداعية والواعظ بالعالم، من باب علمه بجملة من الأمور الدينية، وصف صحيح. ولكن وصفه بالعلامة الفهامة، ونحو ذلك من المبالغات، من الأمور الممجوجة، التي بسببها تشتبه الأمور على العامة، ويظنون كل صاحب عمامة، فقيهاً فهامة.
ومما يحسن بالداعية علمه، والنظر فيه، ليجزل خطابه، ويحسن نظامه، قراءة كتب الرقائق، ككتب حجة الإسلام الغزالي، وكتب ابن الجوزي، ومصنفات بعض المعاصرين، كالشيخ الداعية الكبير أبي الحسن الندوي، وكتب الداعية المصلح الشيخ محمد الغزالي، والأستاذ الغيور أنور الجندي، والأستاذ فتحي يكن، وأمثالهم، فهي مفيدة للداعية، وتعطيه أبعاداً دعوية، ومجالات متعددة للكلام والوعظ، والتأثير على المستمعين والمتابعين.
كما أن حفظ بعض الطرائف، والأخذ من كتب الأدب شيئاً من القصص والأخبار، أمر محبب للناس، ونحن نرى ونسمع كيف يكون تأثير القصاص على المجتمعات، حتى أن الأحاديث الموضوعة لم تسر في الأمة ويستشري شرها إلا من طريق مجالس الوعاظ والقصاص، وقديماً صنف السيوطي رحمه الله كتابه (تحذير الخواص من أكاذيب القصاص).
والله المستعان، وعليه التكلان. اللهم علمنا من لدنك علماً واسعاً يا ذا الجلال والإكرام.
ووصف الداعية والواعظ بالعالم، من باب علمه بجملة من الأمور الدينية، وصف صحيح. ولكن وصفه بالعلامة الفهامة، ونحو ذلك من المبالغات، من الأمور الممجوجة، التي بسببها تشتبه الأمور على العامة، ويظنون كل صاحب عمامة، فقيهاً فهامة.
ومما يحسن بالداعية علمه، والنظر فيه، ليجزل خطابه، ويحسن نظامه، قراءة كتب الرقائق، ككتب حجة الإسلام الغزالي، وكتب ابن الجوزي، ومصنفات بعض المعاصرين، كالشيخ الداعية الكبير أبي الحسن الندوي، وكتب الداعية المصلح الشيخ محمد الغزالي، والأستاذ الغيور أنور الجندي، والأستاذ فتحي يكن، وأمثالهم، فهي مفيدة للداعية، وتعطيه أبعاداً دعوية، ومجالات متعددة للكلام والوعظ، والتأثير على المستمعين والمتابعين.
كما أن حفظ بعض الطرائف، والأخذ من كتب الأدب شيئاً من القصص والأخبار، أمر محبب للناس، ونحن نرى ونسمع كيف يكون تأثير القصاص على المجتمعات، حتى أن الأحاديث الموضوعة لم تسر في الأمة ويستشري شرها إلا من طريق مجالس الوعاظ والقصاص، وقديماً صنف السيوطي رحمه الله كتابه (تحذير الخواص من أكاذيب القصاص).
والله المستعان، وعليه التكلان. اللهم علمنا من لدنك علماً واسعاً يا ذا الجلال والإكرام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق