الجمعة، 14 مارس 2014

(4) خواطر التناصح والإصلاح


(4) خواطر التناصح والإصلاح

لم يزل الجدل والمراسلات والمباحثات حول موضوع نقد المتصدرين غير المتعلمين أصلاً، أو المشتغلين بعلوم غير شرعية ويتصدون للدعوة والإرشاد على غير بصيرة ولا هدى. وكان أشد ما وصلني مما يؤلم القلب، تفريق بعض الناس بين العلم والدعوة، وقول أحدهم لي: إن المترسم بزي العلماء والصالحين، يكفي حضورُه وتصدره في مجالس النفع العام، ولو لم يكن طالب علم، لأن المقصود هو الدلالة على الله!!.

هكذا قال ، مستنكراً عليَّ قولي: إنّ بعض المتصدرين لم يدرس إلا دراسة علمية غير دينية، من هندسة وطلب وغير ذلك، ولا يعرف له طلب للعلم.

ليته قال لي: يكفي للمتصدر للنفع العام، والدعوة الى الله أن يكون عالماً بمقاصد الشريعة العامة، وبالأخلاق الدينية، والضروري من الأحكام، ويكون قد قرأ بعض المتون، ودرس شيئاً من المختصرات، من غير أن يتبحر ويتوسع فيها، مما هو شأن المتخصصين. فلهان الخطبُ.

وآخر تحجج لي بأن بعض الأولياء المعتقدين، والشيوخ الذين يدور عليهم بعض أسانيد الأوراد والطريق بالإجازة والتبرك، كان أمياً!!.
ولا أدري ما مناسبة ذلك الاستدلال أو الاستشهاد في موضوعنا!!.
بل أزيده من الشعر بيتاً .. فإن بعض أسانيد كتب الحديث تدور على أميين، كأبي طالب الحجار ابن الشحنة، الذي سمع البخاري من الحافظ الحسين بن المبارك الزبيدي، وسمع منه آخر عمره كبار أهل عصره، كابن تيمية، والذهبي، والمزي، والبرزالي، وابن كثير، ,ابن ناصر الدين، وغيرهم .. وكان رجلا عامياً يعمل في الحجر والطين!!
ولكن هذا كله في غير محل النزاع، وفي غير الموضوع ..

حديثي ونقدي واستنكاري .. ينصب أيها القراء الكرام في الآتي:

شباب تلقاهم في جيئة وذهاب الى مجالس أسبوعية أو يومية، لا يقرأ فيها كتاب فقه. أو يقرر فيها من لم يدرس ذلك الكتاب ولم يحكمه!.

شباب يضيعون أوقاتهم وأوقات من حولهم في هرج وكلام لا هو علم ولا هو تصوف ولا هو وعظ. يعمد أحدهم الى كتاب من كتب الوعظ باللغة الدارجة، التي تشبه الأمالي، فيقرأها على مريديه وطلابه!
وهكذا .. يزجي وقته وأسابيعه وشهوره في سرد ذلك الكتاب الذي باللهجة العامية القديمة، ويزيده من عاميته المعاصرة .. ثم يدعو بعد الدرس بدعاء: ربنا انفعنا بما علمتنا ..
نعم .. ربنا انفعنا بما علمتنا .. إن كان يصدق على تلك القراءة أنها علم أصلاً.

إن أرباب ذلك الكلام المجموع، ومملي ذلك الكلام المسموع .. كان من السلف الصالح ولا ريب. كان أحمد بن عمر بن سميط إمام وقته، وكان عيدروس بن عمر مسند مصره، وكان علوي بن شهاب شيخ الوادي .. وكان وكان ..
أقلهم تحصيلا من يكاد يحفظ المنهاج أو التحفة. وكلهم أو جلهم يحفظون الإرشاد لابن المقري. لأن الطالب في زمنهم لم يكن يتعمم إلا يوم ختم الإرشاد، غالباً.
وأقلهم تحصيلا من يحفظ ألفية ابن مالك والزبد والجوهرة والشاطبية.
وفيهم من يقرأ بالعشر المشهورة، أو بالسبع المتواترة .. وأقلهم من يحكم قراءتي حفص وأبي عمرو.
وفي التصوف .. كانوا رهبان الليل، يختمون في كل سبع على الأقل.
وفيهم من يكاد يحفظ الإحياء .. أما البداية فيعملون بها من سن العاشرة.
وأما الشيوخ .. فأقلهم من أخذ عن عشرين شيخاً .. أخذاً تاما، قراءة، وحضوراً، وملازمة، وتقريراً .. والنادر من الشيوخ من كانوا يأخذون عنه الإجازة العامة المجردة.
وتلك تراجمهم .. دونك فانظر

أيها الناس ..
إن مجرد حركات، لا تقدم ولا تؤخر.
إن التمشيخ والتزبب قبل الحصرمة. داهية دهياء.

قال إمام الإرشاد، الحبيب عبدالله بن علوي الحداد: «.. فانظر كيف صار نطق هؤلاء الجهال المترسمين أضر على الناس من سكوتهم! تعرف به فرقا بين علماء الدين الذين هم ورثة الأنبياء وأئمة الهدى، وبين الجهال المتشبهين بهم والمترسمين برسومهم في رأي العين وظواهر الأحوال هؤلاء ينفعون الناس بعلمهم، ويهدون الناس بهديهم، ويبينون للناس سبيل ربهم وما فيه فوزهم ونجاتهم في معادهم ومماشهم. والآخرون يضلون الناس بفتواهم، ويلبسون عليهم أمرهم.
وسيأتي فيما بعد مزيد شرح في أحوال الجهال المترسمين المتشبهين بالعلماء في ظواهر أحوالهم مع إفلاسهم عن حقائق العلم والتقوى، وإخفاقهم من بضائع الدين والهدى من طوائف المغرورين ..». انتهى من كتاب «الدعوة التامة».

ومن العجيب في موضوعنا هذا أيضاً:
أنني أنكرت أموراً معلومة عند الناس، يعرفها الصغير والكبير، والقريب والبعيد، ونقدت ظواهر سبق أن نقدها قبلي كبار القوم، ومع ذلك، لقيت من بعض الناس صلفاً ومكابرةً، والبعض اتهمني وتكلم علي في حضرتي وغيابي، وكل هذا متوقع.
لكن غير المتوقع هو المكابرة في قبول الحق، وعدم الانصياع للنصيحة، وعدم اتهام النفس وحملها على إكمال نواقصها، والتطلع الى معالي الأمور، وسني الأحوال.

وقد هالني قول إمام الإرشاد، سيدنا الحداد، رحمه الله: «.. وربما يجيء زمان بعد هذه الأزمنة، وأيام بعد هذه الأيام، يشتد فيها التكبر، ويعظم فيها الأذى على من يدعو إلى الحق وينصح في الدين. فليغتنم الداعي إلى الله وإلى الهدى في هذه الأيام الدعاء إلى الله فيها وإلى دينه والحال ما وصفناه، من قبل أن يأتي زمان آخر، وناس آخرون يرد فيه الحق على أهله ردا صريحا، ويؤذون على ذلك أذى قبيحا؛ بل ربما يبادؤون بالأذى من قبل أن يدعوا إلى الحق والهدى، وذلك عند اقتراب الساعة وظهور أشراطها وأماراتها العامة. كما يعرف ذلك من نظر في الأخبار والآثار».

رضي الله عنه، ما أنفذ بصيرته!.

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق