التنبيه على إشكال تاريخي في مطبوعة كتاب (أخبار مكة) للفاكهي
وأنه لم يكن لخالد بن الوليد، رضي الله عنه، دار بمكة
والثابت عند المؤرخين أن داره كانت بالمدينة
بقلم/ د. محمد أبوبكر باذيب
دار
تاريخية لخالد بن الوليد، رضي الله عنه، ذكرت في (أخبار مكة) للفاكهي (ت نحو 280هـ/ 893م) مما يشعر أنها كانت
بمكة المكرمة، وأنها كانت تقع ضمن رباع بني سهم بن عمرو بن هصيص(1).
وهذا نص كلامه: "ولهم [أي: بني سهم بن عمرو] دارُ قيسِ بن عدي، جدِّ ابن الزِّبَعْرَى.
وهي الدارُ التي كانت اتُّخِذت متوضَّياتٍ، ثم صارت ليعقوب بن داود المطبّقي، ثم
صارت لزبيدة. وكان يقال لها: دار أيوب، وكان أيوبُ قيماً عليها. وهو رجل من بني
سهم. ويقالُ: إن هذه الدارَ كانت لخالد بن الوليد، رضي الله عنه"(2). ما تقدم عن الفاكهي، يخالف المشهور من أن
دار خالد، t، كانت بالمدينة
المنورة، وهي التي عرفت بعد موته بدار أيوب بن سلمة(3)، وتناقلها
الورثة من بعده.
ما
ورد في كتاب (أخبار مكة) للفاكهي، يخالف تماماً ما جاء في (تاريخ) الأزرقي (ت نحو
250هـ/ 864م) الذي تحدث عن رباع بني سهم، وعدد بعض معالمها، فذكر منها "دار
قيسِ بن عدي، جدِّ ابن الزِّبَعْرَى. وهي الدارُ التي كانت اتُّخِذت متوضَّياتٍ،
ثم صارت ليعقُوب بن داود المطبَّقي"(4). نعم؛ وثمة دار لعمرو بن
العاص، ذكرها الأزرقي في تلك الرباع، رباع بني سهم، كانت تقع دون دار عفيف التي
كانت في السويقة(5)، سيعرَّجُ عليها فيما يأتي.
فنجد
أن الأزرقي لم يذكر لخالد بن الوليد داراً بمكة على الإطلاق، كما أنه توقف عن ذكر
مآل دار قيس بن عدي، فيما بعد يعقوب المطبقي، بينما الفاكهي زاد عليه ذكر انتقالها
إلى ملك أيوب السهمي المخزومي. وهذا مما انفرد به الفاكهي. لأن الباحث، بحسب المصادر
المتاحة، لم يجد لأيوبَ بن سلمة السهمي المخزومي ذكراً في كتاب الأزرقي البتة، بل
ولا في تراجم المكيين.
بالنظر
في كتب الرجال، يتضح أن أيوب السهمي المخزومي، أيوب بن سلمة المخزومي، أبا سلمة
المديني. كذا في (التاريخ الكبير) للبخاري(6)، وكذلك سماه ابن حبان في
(الثقات)، وقال: "من أهل المدينة"(7)، ونسبه في (الجرح
والتعديل) مدنياً أيضاً(8). ورفع أبو نعيم نسبه في (معرفة الصحابة)
فسماه: أيوب بن سلمة بن عبدالله بن الوليد المخزومي، وروى من طريقه حديثاً عن
أبيه، عن جده(9)، وهو كذلك في (تاريخ الطبري)(10)، و(تاريخ
دمشق)(11)، وفيه: "ولد بدمشق، وسماه معاويةُ أيوبَ، ثم سكَن
المدينة"(12). ووقع في مطبوعة (المقاتل) تسميته: أيوب بن سلمة بن
عبدالله بن عباس بن الوليد بن المغيرة المخزومي(13)، واسم (عباس) يبدو
أنه مقحَمٌ هنا إقحاماً.
الشاهد
مما سبق أن أيوب بن سلمة، هو أيوب السهمي المخزومي، الذي ذكره الفاكهي في (أخبار
مكة)، وهو مدني قطعاً، وليس من أهل مكة، ولم يسكنها قط. فذكرُه في سياقِ بني سهم
المكيين، وأنه ممن تملك عقاراً بمكة، غريبٌ.
وبالمضي
إلى مصادر التاريخ المدني، نجد أنّ لأيوب بن سلمة السهمي المخزومي ذكراً فيها،
فنجد ابن زبالة (ت 199هـ/ 814م)، وابن شبة (ت 262هـ/ 875م)، وكلاهما يذكرُ دار
خالد بن الوليد، الدار المدنية. قالا: وهي بيد بني أيّوب بن سلمة. زاد ابن زبالة:
أن أيوب بن سلمة اختصم فيها هو وإسماعيل بن الوليد بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن
الوليد بن المغيرة، يقول أيوب: هي ميراثٌ، وأنا أرثُها دونكم بالقعدد. أي: لأنه
أقرب عصوبةً. ويقول إسماعيل: هي صدقةٌ، أي: فيدخل فيها القريبُ، وإن بعُدَ.
فأعطيها أيوبُ ميراثاً بالقعدد(14).
قال
السمهودي: "لأن أيوبَ المذكور، كما ذكر ابنُ حزم، وارثُ آخرِ من بقيَ من ولد
خالد بن الوليد. قال: لانقراض ولد عمه خالد بن الوليد كلهم. قال: وكان قد كثر ولد
خالد بن الوليد حتى بلغوا نحو أربعين رجلاً، وكانوا كلُّهم بالشَّام، ثم انقرضُوا
كلهم في طاعون وقعَ، فلم يبقَ لأحدٍ منهم عقبٌ"(15).
الفاكهي
روى خبر اختصام أيوب بن سلمة وإسماعيل بن الوليد(16)، باللفظ الذي عند
ابن زبالة نفسه. ثم قال في تحديد موضع الدار: "وهي مواجهةُ المسجدِ، ليس
بينها وبين المسجد إلا الزقاقُ الذي يخرج إلى موضع البطحاءِ، التي قال عمر t: من كان يريد أن
يرفثَ، أو ينشد شعراً، فليخرج إلى البطحاءِ. وقد دخلت البطحاء في المسجد"(17).
وهذا الوصف إنما يصدق على دار في المدينة المنورة. فقد ورد ذكر دار خالد بالبطحاء
عند ابن شبة، في سياق ذكر دور بني مخزوم بالمدينة. قال: "اتخذ خالد بن الوليد
بن المغيرة t داره التي كانت
بالبطحاء، وهي اليوم الدار التي بين دار أسماء بنت حسين، وبين الخط الذي في دار
عمرو بن العاص، وهي بأيدي بني أيوب بن سلمة، من ولد الوليد بن المغيرة"(18).
فهذه النصوص كلها، والسياقات التاريخية إنما هي فيما يخص خطط المدينة المنورة،
وليس خطط مكة المكرمة.
من
الشواهد على اضطراب الكتاب المطبوع من (أخبار مكة) للفاكهي، ما أخرجه ابن زبالة، من
طريق اليسع بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبيه، قال: شكى خالد
بن الوليد t إلى النبي r ضيق منزله، فقال له: (ارفع البناء في السماء، وسَل الله عزَّ وجلَّ
السعة)، أخرجه الفاكهي في (تاريخه)(19)، وابن شبة(20)،
وأبوداود في (المراسيل)(21)، والطبراني في (الكبير)(22)،
والخطيب في (المتفق)(23)، وابن عساكر(24). قال السمهودي
معلقاً على هذه الرواية: "وفي موضعها اليوم مقدم رباط السبيل، وذلك يدل على
صغرها، بخلاف غيرها من الدور. ولذلك شكا ضيقها"(25). وكلام السمهودي ينصب على
المدينة المنورة لا غير.
ما
تقدم، جميعه، إنما هو شواهد تدل على ما ورد في كتاب (أخبار مكة) للفاكهي، من ذكر
دار لخالد بن الوليد في مكة المكرمة، مخالف لما في بقية المصادر. بل حتى روايات
الفاكهي التي طالعتنا، لا تدل إلا على وصف تلك الدار المدنية، وإن جاء ذلك في سياق
الكلام عن مكة ودورها. فلعل نقصاً في النسخ الواصلة إلينا، أو إدراجاً من النساخ
وقع بدون تمييز، والله أعلم.
العياشي،
المؤرخ المدني المعروف، أكمل التعريف بدار خالد بن الوليد، وعقب على كلام السمهودي
بقوله: "أي: في الزقاق الذي نقول له اليوم: زقاق البدور، نسبة للأشراف البدُور،
بني حسين. والذي حضرته وأنا طفل، أن الدولة التركية كانت قد بدأت في هدم الدور التي
كانت حول المسجد النبوي، لتوسيع الرحبات حوله. وكانت قد شرعت في هدم دار ريطة،
وأزالت الطابق الأعلى، كما هدمت ما بعده إلى الشمال. وفى الهدميات السعودية ظهرت دار خالد بن
الوليد في الركن الشمالي الشرقي من زاوية السمان (دار ريطة)، وهى صغيرة جداً. وكان
فيها قبة أثرية، مزركشة بالألوان. وأعتقد أن في مكانها اليوم بعض بيت الباكستان. وقد
جعل إشارة إليها ما يشبه البرج"(26). وينظر بقية وصف دار خالد بن
الوليد فيما تقدم من هذه الموسوعة، تحت عنوان (أيوب بن سلمة، دار)(27).
* تنظر الهوامش والمصادر في المقال الأصلي، موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة، المجلد التاسع.
نفع الله بعلمكم، وبارك فيكم
ردحذف