شواهد ونصوص على تراجع الشوكاني عن تكفير الصوفية:
إذاً،
علمنا مما سبق، أن مضمون هذه الرسالة المعنونة بـ«توبة الشوكاني»، هو
تراجع القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني عن تكفير بعض المعينين، وقد
وجدت لذلك التراجع شواهد كثيرة، تدعمه، وتؤكده، أزعم أن إيرادها هنا مما
يفيد القراء الكرام، ويوسع دائرة البحث، ومحيط الموضوع.
الشاهد الأول:
كلامٌ مطول للشوكاني نفسه في كتابه «البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن
السابع»، في أثناء ترجمته لصديقه العلامة السيد القاسم بن أحمد بن عبدالله
لقمان، الذي كان قدبعث له بقصيدة في الموضوع، فرد عليه بمثلها، ثم قال عقب
إيراده نصها، وإشارته إلى تأليف رسالةٍ سماها «الصوارم الحداد»، المشار
إليها سابقاً:
«وقَد
أوضحتُ فى تلك الرسالةِ حالَ كلِّ واحدٍ من هؤلاءِ، وأوردتُ نصوصَ كتُبهم،
وبيَّنتُ أقوال العلماء فى شأنهم، وكان تحريرُ هذا الجوابِ في عنفوانِ
الشبابِ، وأنا الآن أتوَقَّفُ فى حالِ هؤلاءِ، وأتبرأ من كلِّ ما كانَ من
أقوالهم وأفعالهم مخالفاً لهذه الشريعة البيضاء الواضحة التى ليلها
كنهارهَا. ولم يتعبَّدْني الله بتكفيرِ من صَار فى ظاهر أمرِه من أهلِ
الإسلامِ.
وهَبْ
أنَّ المرادَ بما فى كتُبِهم، وما نقِلَ عنهم من الكلماتِ المستنكَرة
المعنَى الظاهرَ، والمدلُولَ العربيَّ، وأنه قاضٍ على قائله بالكُفْر
البوَاحِ، والضَّلالِ الصُّراحِ، فمن أين لنا أنَّ قائله لم يتُبْ عنه،
ونحْنُ لو كنَّا في عصْرِه، بل في مصْرِه، بل فى منزلِه الذى يعالجُ فيه
سكراتِ الموتِ، لم يكُنْ لنا إلى القَطعِ بعدَم التوبةِ سبيلٌ، لأنها تقَعُ
من العبدِ بمجرَّدِ عقد القلبِ، مالم يغَرْغر بالموتِ، فكيف وبينَنا
وبينهم من السنينَ عدَّةُ مئينَ!!.
ولا
يصِحُّ الاعتراضُ على هذا بالكفَّارِ!. فيقَالُ: هذا التجويزُ ممكِنٌ فى
الكفار على اختلافِ أنواعهمِ. لأنا نقولُ: فرْقٌ بينَ من أصْلُه الإسلامُ،
ومن أصلُه الكفْرُ، فإن الحمْلَ على الأصلِ مع اللَّبسِ هو الواجبُ، لاسيما
والخروجُ من الكفر إلى الإسْلامِ لا يكونُ إلا بأقوالٍ وأفعالٍ، لا
بمجرَّدِ عقد القلبِ والتوجُّه بالنيةِ، المشتملَينِ على الندَمِ والعزْمِ
على عدم المعاودَة، فإن ذلكَ يكفي فى التوبة، ولا يكفي فى مَصِير الكافر
مسلماً.
وأيضاً: فرقٌ بين كُفْر التأويلِ، وكفْرِ التصريحِ، على أني لا أثبتُ كفر التأويلِ كما حقَّقتُه فى غير هذا الموطنِ.
وفي هذه الإشارة كفايةٌ لمن له هدايةٌ، وفى ذنوبنا التي قَد أثقلَتْ ظهورَنا لقلوبنا أعظَمُ شغلةٍ، وطُوبَى لمن شغلته عيوبُه، و: «منْ حُسْنِ إسلام المرء تركُه مالا يعنيه»،
فالراحِلةُ التي قد حملتْ مالا تكادُ تنوءُ به، إذا وُضعَ عليها زيادةٌ
عليه انقطعَ ظهرُها، وقعدَتْ على الطريقِ قبلَ وصُولِ المنزلِ؛ وبلا شَكّ
أنَّ التوثُّبَ على ثلْبِ أعراضِ المشكُوكِ في إسْلامهم، فضْلاً عن
المقطُوعِ بإسلامهم، جراءةٌ غير محمودةٍ، فرُبَّما كذَب الظنُّ، وبطَل
الحديثُ، وتقشَّعتْ سحائبُ الشكوك، وتجلَّتْ ظلماتُ الظنونِ، وطاحتِ
الدقائقُ، وحقَّتِ الحقائقُ.
وإنَّ
يوماً يفر المرءُ من أبيه، ويشحُّ بما معه من الحسناتِ على أحبابه وذويه،
لحقيقٌ بأن يحافظَ فيه على الحسناتِ ولا يدعَها يوم القيامة نهباً بين قومٍ
قد صارُوا تحتَ أطباقِ الثرَى، قبل أن يخرُجَ إلى هذا العالم بدهورٍ، وهو
غيرُ محمودٍ على ذلكَ ولا مأجورٌ، فهذا مالا يفعلُه بنفسِه العاقلُ. وأشدُّ
من ذلكَ: أن ينثر جرابَ طاعاتِه، وينثُلَ كنانة حسناتِه على أعدائه، غير
مشكُورٍ، بل مقهور.
وهكذا
يفعَلُ عند الحضُور للحسابِ بين يدى الجبارِ بالمغتابين والنمامين
والهمازين واللمازينَ، فإنه قد عُلِم بالضرورة الدينيةِ: أن مظلمةَ
العِرْضِ كمظلمة المالِ والدَّمِ، ومجرَّدُ التفاوتِ في مقدار المظلمة لا
يوجِبُ عدم اتِّصَاف ذلك الشىء المتفاوتِ، أو بعضه، بكونه مظلمةً، فكلُّ
واحدةٍ من هذه الثلاث مظلمةٌ لآدمي، وكلُّ مظلمة لآدميٍّ لا تسقط الا
بعفْوِه، ومالم يعْفُ عنه باقٍ على فاعلهِ، يُوافي عرصَاتِ القيامةِ.
فقل
لي: كيفَ يرجُو من ظلمَ ميتاً بثلْبِ عرضِه، أن يعْفُوَ عنه؟! ومن ذاك
الذي يعفُو في هذا الموقفِ، وهو أحْوَجُ ما كان إلى ما يقيه عن النارِ!.
وإذا
التبسَ عليك هذا؛ فانظُرْ ما تجده من الطباعِ البشرية فى هذه الدار، فإنه
لو ألقَى الواحدُ من هذا النوع الإنسانيِّ إلى نارٍ من نيارِ هذه الدنيا،
وأمكنه أن يتقيَها بأبيه أو بأمه، أو بابنه أو بحبيبه، لفعلَ، فكيف بنارِ
الآخرة! التي ليسَتْ نار هذه الدنيا بالنسبةِ إليها شيئاً.
ومن
هذه الحيثية؛ قالَ بعضُ من نظر بعين الحقيقةِ: لو كنتُ مغتاباً أحداً
لاغتبتُ أبي وأمي، لأنهما أحقُّ بحسناتي التي تؤخَذُ منى قسراً. وما أحسنَ
هذا الكلامَ!.
ولا
ريبَ أن أشدَّ أنواع الغيبة وأضرَّها وأشرَّها وأكثرَها بلاءً وعقاباً، ما
بلغَ منها إلى حدِّ التكفيرِ واللَّعنِ، فإنه قد صحَّ: أن تكفير المؤمن
كفرٌ، ولعنه راجعٌ على فاعلِه، وسبابُه فسقٌ، وهذه عقوبةٌ من جهة الله
سبحانه.
وأما
من وقع له التكفير واللعن والسبِّ فمظلمةٌ باقيةٌ على ظهر المكفِّر
واللاعن والسَّبابِ، فانظر كيف صَار المكفِّرُ كافراً، واللاعنُ ملعوناً،
والسبَّابُ فاسقاً، ولم يكن ذلك حدَّ عقوبته، بل غريمُه ينتظر بعرَصات
المحشرِ ليأخذ من حسناته، أو يضعَ عليه من سيئاته بمقْدارِ تلك المظلمَة،
ومع ذلك فلا بدَّ من شيءٍ غير ذلك، وهو العقوبةُ على مخالفة النهي، لأن
الله قد نهَى في كتابهِ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، عن الغيبة
بجميع أقسامِها، ومخالفُ النهي فاعلُ محرَّمٍ، وفاعلُ المحرَّم معاقبٌ
عليه، وهذا عارضٌ من القولِ جرى به القلمُ، ثم أحجِمُ عن الكلامِ، سائلاً
من الله حسْنَ الختام»(1).
الشاهد الثاني:
ما جاء في «ديوان الشوكاني»، المسمى «أسلاك الجوهر»، المطبوع حديثاً
بتحقيق الدكتور البحاثة حسين عبدالله العمري الصنعاني، وفيه أبيات في مدح
أولياء اليمن المشاهير، ومنهم الإمام عبدالهادي السودي، دفين جبل صبر بتعز،
سنة 932هـ/ م. وكان الشوكاني رحمه الله قد وصل إلى تعز في بعض السنين،
وزاره، ووقف عند قبره، وقال هذه الأبيات:
سلام على السودي بحر الحقائق ** ومن منح الطلاب نهج الطرائق
أيا رحمة الرحمن حلي بقبره ** ودومي عليه دائما لا تفارقي
وقولي له: إنا نزلنا جواره ** وللجار حق الضيف من كل سابق
أيا روح عبدالهادي البر دمت في ** نعيم وإكرام من الله خالقي(2)
فهذان
الشاهدان خير دليل على ما ختم به العلامة الشوكاني حياته، بعد أن كان في
عنفوان شبابه شديد القول في هذه المسائل، وقد تاب وأناب إلى ربه تعالى من
تكفير أهل القبلة، وخلى بينهم وبين خالقهم تعالى، مع بقائه متمسكاً بحبال
الشرع المتين، وعدم تقبله لكل قول يخالف صاحبه ما ورد في نصوص الكتاب
والسنة، ولكن من غير تكفير.
والآن،
إلى نص «توبة الشوكاني»، بعد هذا العرض الذي قدمته بين يديها، عسى أن يكون
فيه فائدة لمن وقف عليه، وقد اكتفيت بنشره كما هو، دون أي تعليق أو توثيق،
رجاء أن يطلع عليه الراغبون، ثم لعلي أعود إليه بعد ذلك بما تستوجبه
الحال، والله الموفق.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) الشوكاني، محمد بن علي، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، بيروت، دار المعرفة، الطبعة الأولى: ص 31-39.
(2) الشوكاني، محمد بن علي، ديوان أسلاك الجوهر، تحقيق حسين العمري، (بيروت، دار الفكر المعاصر، ط2، 1406هـ/ 1986م): ص 260-261.
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق