الثلاثاء، 26 مارس 2019

مكاتبة من الإمام الجليل السيد الحسن بن صالح البحر الجفري (ت 1273هـ) إلىٰ الشريف، والي مكة المكرمة




مكاتبة من الإمام الجليل السيد الحسن بن صالح البحر الجفري (ت 1273هـ)
إلىٰ الشريف، والي مكة المكرمة

هذه رسالة نادرة، وخطاب شريف منيف، كتبه شيخ الوادي، جبل الزهد والعبادة، الحبيب الحسن بن صالح البحر الجفري (ت 1273هـ)، وصية وتوجيها منه إلىٰ شريف مكة المكرمة في أيامه، ولم يصرح باسمه في الرسالة، ولعل ناسخها رأى حذف الاسم، لأن المقصود هو الاطلاع على النصيحة، وإثباتها، لفائدة من يراها ويطالعها.
وهي في الغالب موجهة إلىٰ الشريف محمد بن عبدالمعين بن عون الحسني النموي (ت 1274هـ)، وكان قد تولى شرافة مكة في سنة 1243هـ، وأقام في مشيخة السادة العلويين السيد الشريف إسحاق بن عقيل بن يحيى (ت 1271هـ)، وقد ورد ذكرهما كثيراً في «مكاتبات الإمام الحسن البحر»، فلأهمية هذه الرسالة، ولما تحويه من نصح وتوجيه، ولقيمتها التاريخية، بادرت إلىٰ نشرها هنا، رجاء الفائدة منها لكل من اطلع عليها.

محمد أبوبكر باذيب، 9 شوال 1433هـ





قبة الإمام الحسن بن صالح البحري الجفري رحمه الله



بسم الله الرحمن الرحيم
«الحمدلله الذي أعزَّ الدنيا بالأئمة الراشدين، الذين جعلوا همهم وبغيتهم رضا رب العالمين، فأخذوا أنفسَهم بالاقتداء والاهتداءِ باتّباع سيد المرسلين، أولئك أسعد السعداء من الفائزين والمفلحين، إذ قووا هممهم في نصرة دين الله ولم يبالوا بالطاغين والظالمين، ولا الكافرين والمنافقين، ولا سائر حزب الشيطان الخاسرين. أولئك رعاة الأمة وهداتها إلى الصراط المستقيم والحق المبين، أولئك هم المقامات الساميات، والدرجات العاليات، الأعزاء بقدرة القوي المتين، القائل في محكم كتابه: ﴿ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾.
والصلاة والسلام على من هدّ الله به جدار الكفر ودمغ به شقاشق الطغيان، وكيد الشيطان، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الأئمة الراشدين، وتابعيهم بإحسانٍ من المتقين المخلصين، الذين لم تلههم دار الغرور، وموطن التلبيس والزور، ولم يفتتنوا بزهرة الدنيا ولا بالمالِ والبنين، ولم يظفر بهم رأس الغواة بتقواهم وبتوكلهم على القوي المتين، أولئك حزب الله مع النبيين والصديقين، الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم تبلغ القلوبُ الحناجرَ ويفر الآباء من البنين.
من حسن بن صالح البحر.
إلى حضرة الشريف باشا، المتولي من تحت الخليفة السلطان عبدالمجيد بن محمود بن عبد الحميد خان، قوّى الله ساعده على تبديد أهل الكفر والعدوان، وأخذ به على أيدي أهل المخالفة والعصيان، وأنهض همته وهمة من واله على تمهيد شريعة سيد ولد عدنان، ونصرة دين الملك الديان، حتى يكونوا من أسعد السعداء في اليوم الأكبر، الذي يجمع الباري جل وعلا فيه الأولين والآخرين، من إنسها والجان، فالعزيز من اعتزَّ في ذلك اليوم برضوان الرحمن، والذليل الحقير من استحق المقْتَ بمخالفة جبار السماء، حتى أذاقه في ذلك الموقف الأكبر الخزي والهوان، ويبشر بسخط الله والهبوط في دركات النيران.
وذلك من اتبع هواه وآثر دار الغرور واتبع خطوات الشيطان، واشتغل ببهارج الدنيا وكل حقير فانٍ، وإن ملكَ الدنيا بأسرها ولم يرضَ عنه مولاه ولم يؤثر عُقباه على دنياه فهو آيلٌ للخزي الخسران.
والسعيد الرشيد من ألقى من قلبه الحظوظ الفانياتِ وأقبل بكنه الهمة على الملِك الذي كلّ يوم هو في شأن، وأعزَّ من دينه ما هان، ولم يبال فيما يرضى به مولاه بمن عزَّ ولا من هان، فأقام حجة الله على كل من كان، فلا جرم أن ينصره الله ويقمع به كل غاو وشيطان، ويضحي به دين الله مشيّد الأركان.
ويكون ظله في ظلّ الله يوم لا ظلّ إلا ظلُّ عرش الرحمن، يوم يصير مخلداً في ملكٍ كبير مؤبّد لا يخشَى فيه التكدير ولا التغيير ولا الهوان، في ملك كبير عظيم لا يعز عه بخاطر إنس ولا جان. وكيف لا! وقد كبّره الكبيرُ المتعال، وعظّمه عظيمُ المن والإحسان.
فأعظم الثواب وأجزل العطاء من الكريم الوهابِ من أعطاه الله القدرة وشكر إنعام مولاه، وقام بما أمره الله وذلك أسعد السعداء يوم يلقاه، فلا جرم ان يصلح الله به البلاد والعباد، ويعطيه أجر من استقام ممن أقامَه عليه على دين الله، وشرعة رسول الله، ومن أعطاه هذه النعمة وتهاون بشكرها ولم يقم فيها بأمر الله، فقد باء بالخسران في دنياه وأخراه، واستحق العذاب الأليم في دركات النيران، ووقعت به الخزية والمذلة على رؤوس جميع الثقلين، ولم ينفعه ولم يغن عنه ما وقع له في العمر الفاني، من الحظ الداني، في العمر القصير، والعيش الحقير، ويقدم إلى ربه معذباً ومهان، فقد باع نفسه بأبخس القيم وأعظم الخسران، وتحرقه الندامات في يوم كان مقداره خمسين ألفَ سنةٍ، فأعظم بذلك من خسران. ثم تسحبه الزبانية إلى دركات النيران، فوالله ما يتهاون بهذا إلا من ضَعُف منه الإيمان، واستحوذ عليه الشيطان، وأنساه ما خلق له من عبادة الرحمن.
فمن كان شاكًّا في هذا فلينظر إلى مبدعاتِ الأكوان، التي أبدعها وزينها عظيم الشأن، وليتفكّر هل خلق أو خلقت من غير شيء أو أبدَعها الذي يقول للشيء كن فكان، فإن لم يؤمن بهذا فقد أراه الله ما صنعه بغَضبه في عادٍ وثمود وغيرها ممن استحق العقوبة، إذ جاءته النذارة على ألسنة المرسلين، إذ قام بهم الحجة على الجاحدين، وأوضح بهم المحجة للمهتدين، قال جلّ وعلا: ﴿وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم﴾، يعني: الآخرين، مما آتينا الأولين من القوة والتمكين، ﴿فكذبوا رسلي﴾ فكيف كان نكير.
قال الله تعالى: ﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم﴾، وقد تحققوا قوم نوح بالإغراق، وقوم عاد بالريح العقيم، التي لم تأت على شيء إلا جعلته كالرميم، فاعرَضوا عن ربهم وعن داعيه بالحظوظ الزائلة، فالتهَوا بها وتنافسوا فيها، حتى حقَّ بهم المقتُ والعذاب الأليم، فمن ينصرهم من الله إذا غضب عليهم وأخذَهم العذاب الشديد؟. فهل أغنى ما عنهم ما جمعوه وما منعوه؟ فأخذهم الله بذنوبهم، قال تعالى: ﴿وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كنا سابقين * فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾.
وقد بلغَنا من المنكراتِ الفظيعة ما يوجب زوال النعم، وحلول النقم، وقد أقام السلطان عبدالمجيد بن محمود بن عبدالحميد، خليفةً في إقامَة حدود الدين، وشريعة سيد المرسلين، وخلفائه الهداة المهتدين، الذين جعلهم الله سيفه على الجاحدين والكافرين.
وبلغنا أن جندهم تزيَّوا بزي الكافرين الملحدين، من النصارَى المحادين لله، إذ كانوا لما أنزله من كتابه وما جاء به الرسول الأمين مكذبين، وما ذلك إلا أن استحسنوا دينهم وخلا الإيمان في قلوبهم، وخافوا أعداء الله المعتدين، ولم يشفقوا من عذاب الله المهين، وينتصروا بقوّة الله القوي المتين، قال جل وعلا: ﴿ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾، حتى استحوذ عليهم الشيطان اللعين، وأنساهم قيوميته من لم يقم لغضبه أهل السموات والأرضين أجمعين.
حتى غفل هؤلاء النوابُ والحكام من المسلمين، فكأنهم لم يؤمنوا باليوم الآخر الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، فإن كانوا بوعد الله مصدقين، ولأمره ممتثلين، فليخرجوا هذا الذي شبهوا به وشاركوا فيه الكافرين الملحدين، وليقوموا بأمر الله، وليغاروا على دين الله، إن كانوا مؤمنين، وليعلُوا كلمةَ الله عنوةً ويعزوا المسلمين ويذلوا الكافرين، إن كانوا للنصيحة سامعين، ولهدي رسوله متبعين، ويبشرون بحوله وقوته بالفتح المبين، ويهزَمُ بهم جند الشيطان، وحزبه الخاسرين، وليزيلوا هذا الزيَّ الذي هو زيّ الكفار، ويأمروا بزي المتقين الأبرار، قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾.
وعليهم أن يزيلوا من دهليز الحرمين الشريفين، جدة، ومن يسكنها من الفرنج والنصارى، بل ومن غيرها من بلدان المسلمين، وقد بلغنا أنها تقبل شفاعتهم، ومسامحتهم في عشورهم وجناياتهم، وتعزيزهم وتوقيرهم، وظهورهم بشرب الخمر، وتعاطي الكفار وغيرهم، ممن لا يخاف الله من المسلمين.
وبلغَنا أيضا مزاحمة النساءِ بالرجال في المطاف، فليميزوهن بأن يكن في حاشيةِ المطاف، كما ذكره العلماءُ، لأن اختلاط الرجال بالنساء موجبٌ للفتنة ووقوع الفاحشة، ولو من النظر، تحت بيت الله العظيم.
ومن ذلك توقير أهل الدنيا، وإهانة الضعفاء والمساكين من عباد الله، وإخراجهم من الصفوف، ويجعلون مكانهم أهل الجِدَة، وربما يكون منهم من يستجاب دعوته، ويغضب لغضبه جبار السموات والأرض، فيحرق الوالي والمولى عليه بسطوات عدله.
ومن المنكرات أخذهم الأجر الكثير على الطائفين، يعجز عنه الفقراء، ويتعب فيه الأغنياء، وإذا لم يعطوهم ذلك سبّوهم وشتموهم.
على الولاة والعلماءِ أن يزيلوا هذه المنكرات، ليحظون برضَا رب الأرضين والسموات، فيسلموا من غضبه بأعظم السطوات، فإنه إذا غضب لا تقوم له جميع البريات وسائر الكائنات.
وعليهم أن يتفقّدوا ما في الحرَم، من داخله وخارجه، طائفه ومصليه، على ما مضى عليه السلفُ السالكون على سنة سيد المرسلين، وقد حججنا في زمن قبلَ هذا، ولم نر تلك المنكرات، وصار هذا من غربة الدين والأمور المستقبحات.
وقد بلغَنا ذلك ممن نثقُ بقوله ويخاف الله ويتقيه، فبعثنا بهذه النصيحة لكم حذراً وإشفاقاً من غضبِ الله، وغارةً على دين الله، وتضييع حدوده وأحكامه، وهذه النصيحةُ إن شاء الله جديرةٌ بالقبول، لمن كان له قلب حي وحياءٌ، ومن لم تنفعه النصيحة فإنه ميتٌ، والشجر الصالبُ العرقِ لا ينفعُه سقيُ الماء، والذي في عروقه بقايا حياةٍ يحيى ويرتعِش. والمؤمنون الذين بذر فيهم الإيمان، قال فيهم جلّ وعلا: ﴿وبشر الذين آمنوا أنّ لهم قدم صدق عند ربهم﴾.
فعلى الولاة المتقينَ، المعتزين بعزة الله، الذين لا يخافون في الله لومة لائمٍ، ولا يبالوا بكل معتدٍ وظالم، أن يقوموا بأمر الله على أنفسهم، ومن استرعوه من عباد الله، إن أردوا نصرةَ من الأرضُ أرضُه والسماء سماه، والقدرة قدرته والخلق خلقه وهو يحكم ما يريد ويفعل ما يشاه. فليزيلوا ما يغضِبُ جبّار السماء، من شربِ الخمر، والزنا، والربا، واجتماع النساء والرجالِ من غير حاجةٍ، وليميزوا بدين الله المسلمينَ من الكافرين، بإهانة الكافرينَ وإعزاز المؤمنين، وإقامة حدود الله الذي شرَعها على لسان رسوله وكتابه المبين، فإن لم يفعلوا ذلك، ولم يرفعوا به رأساً، فقد باءوا بالخسران المبين، واستحوذ عليهم الشيطان اللعين.


ونحن عليهم فيما قصروا فيه من دين الله في الموقف الأكبر شاهدين، وصدقَ فيهم قول الله تعالى: ﴿كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون * وترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون﴾.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق