الثلاثاء، 26 مارس 2019

صدى السنين ورجع الأنين (ديوان شعر) للسيد أحمد بن علي بافقيه (ت 1408هـ)





صورة الأديب المرحوم السيد أحمد بن علي بافقيه



اسم الكتاب: صدى السنين ورجع الأنين (ديوان شعر)
اسم المؤلف (الشاعر): أحمد بن علي بافقيه (ت 1408هـ)
المحقق، المصحح: محمد أبوبكر باذيب.
الناشر: دار الفتح للدراسات والنشر.
سنة النشر 2009م.

أنا و رفيقُ العمرِ
الأديبُ الشاعر السيدُ أحمد بن علي بافقيه
رحمه الله رحمة واسعة
بقلم صديقه                     
الشيخ محمد بن أحمد بافضل (أبوطارق)

في عام 1372 هـ  قدمتُ إلى المملكة العربية السعودية، و عملتُ لدَى أحَد التجّار بمكة، وبدأت أعيشُ وسطَ غربةٍ كاملة، فلا أهلَ ولا قريبَ ولا صديق، كنت أعيشُ ليلاً في غرفة وَحيداً، ولا يوجدُ شيء من وسَائل الإعلام أو الراحة إطلاقاً، ومرّتْ حوالي ستةُ أشهر و الهموم تلفني من كل جانب، لم يكن يخففها إلا سويعاتٌ أقضيها بعد المغرب حولَ حلقاتِ الدروس، والطوافِ بالبيت الحرام، حتى جمعتني صدفةٌ بالسيد أحمد.
كان هو يعيش مع رفقةٍ لا يجمعهم بها لا فكرٌ و لا علم، وكان يعيش في نفسِ الجوّ الذي غرقتُ فيه، لقيتُه أولَ مرةٍ، ولأولِ وَهلة أحسَستُ بشيء يشدني إليه، كما شعرَ هو، و تعارفنا بسرعة لا يمكن تصورها، وقد قالت العربُ قديماً: «ربّ أخٍ لكَ لم تلده أمك»، وما أجملَ هذا الأخَ إذا رزقك الله به في غُربة الأهل والوطن والفكر، فيجلّي الوحدةَ وينعشُ النفسَ والفكر، ويجدّد الدماء في العروق.
وهذا ما كان من صُحبتي مع رفيق الدرب السيد أحمد بافقيه!. فكلما اقتربنا؛ زاد شعورُنا بأن كلينا نعمةٌ من الله للآخر، يمدّني بالعون و التقوى، فقد كانَ نِعمَ الأخُ في الضراء قبل السراء. لقد كنا منسجمَين في التفكير والرؤى والأحلام وبُعد النظر، واستمرّت الاتصالات كلَّ ليلة، حتى أنه أحياناً يترك عمله نهاراً ويجيء إليَّ لدقائق.
وتسألني: كيفَ رأيتَ الرجل بعدَ كلِّ هذا التعارف العجيب و الأخوّة الصادقة التي استمرت حوالي الخمسين عاماً بدون أي تعكير في صفو العلاقة؟. لقد كان السيد أحمد علي بافقيه رجلاً نموذجياً بكل ما في الكلمة من معنى، يتمتع بذكاءٍ خارق، وبُعدِ نظَرٍ متميز، ومواهب أدبية وشعريةٍ يعجز يَراعي عن وصفها، رجُل فكر وكلمة ، بنى نفسَه بنفسه، و علّم نفسَه بنفسه، يتدفق الشعر من فمه كما يتدفق الشلاّل بالماء العذب الزلال.
ومن نِعَم الله عليّ أنه كان معي حتى اللحظات الأخيرة من حياته، صافيَ الفكر، لا يعرف المجاملة و لا المداهنة، صريحاً في بساطة، و يُرى في أحاديثه مع أيٍّ كان واضحاً غاية الوضوح
 سمع مرةً بقدوم الشيخ محمد محمود الصوّاف إلى جدة، هارباً من حاكم العراق، فقال لي: يجب أن ننزلَ و نتحدث إليه، و نعرضَ خدَماتنا المتواضعة عليه. كنتُ أراقبه و هو يتحدث إلى هذا العالِم الجليل، كأنه يتحدث إلى صديقٍ يعرفه من زمن، و أسهبَ في الحديث عن السياسة ومستقبلِ الأمة العربية، لغايةِ أنّ الشيخ الصواف تعجبَ غايةَ العجب من هذه الروح العربية الصادقة، وقال له: نحنُ موظفون صغار، و لكنّنا نستطيع أن نَمُدّ العون بكل ما نملك. فشكره وأكبره، و قام يودّعه إلى خارج المجلس.
ومرّت الأيامُ الجميلة ونحنُ في جوّ مشرق، و نسينا تلك الأيام السودَ التي مرّت علينا، حتى تحوّل عمله إلى الدمام، فشَعر كلانا بعَناء الفراق، كان يكتبُ لي رسالةً يوماً بعد يوم، و يشرح فيها خواطرَه وهمومه، وكان يناقشُ بعضَ الأمور في إسهابٍ عجيب، وقد تمتدّ الرسالةُ إلى سبع صفحات، مع سعةِ إطلاعٍ على كل ما يجري في العالم. كتب لي مرةً: «أما قرأتَ الرسالةَ التي وجهها السيد صَبري العسلي إلى الرئيس عبد الناصر، يشرح له الأوضاعَ المتردية التي حلّت بدولة الوحدةِ؟»، قلت: «لم أسمَع بها». فإذا به يُرسل لي صورة منها، تتألف من حوالي 12 صفحة.
ومرّت الأيامُ؛ حتى عاد إلى مكة، واستأنفنا سيرتَنا الأولى، وعشْنا في ربوع مكة المكرمة أياماً جميلة، ومن حُسنِ الصُدَف: أن الشيخَ عمرَ الخطيب كان في مكة، وينزل ضيفاً علي، فكانت تجمعُنا نحن الثلاثةَ لقاءاتٍ، طفنا خلالها بكلّ عَوالم الشعر والأدب، والفقه والسّيَر، وفجأةً تحوّل عملي  من مكة إلى جدة. وأسِفْنا حُزناً على تلك الاجتماعات المثمرة المفيدة، والتي ربما لن تعود مرة أخرى.
و قد سجل السيد أحمد بافقيه مترجِماً أحزانه في قصيدة عصماء مطلعها:
بافَضلُ بعدُك بُعدُ
و في المجَالسِ نَقصٌ

فهَلْ لنَا منه بدُّ
وفي الجوانحِ وَجْـدُ
حتى قال في آخر القصيدة :
أما أنا سَـوفَ أبــقَـى
لن أبرحَ البيتَ حـتَّى
عـن الحـمَى لا أُصَـدُّ
يـضـمَّـني فـيـه لـحْـدُ
رحمه الله رحمة واسعة.
ومرت الأيامُ؛ وإذا به يتحوّل عمله من مكة إلى جدة، وعشنا أياماً سعيدةً مليئةً بالذكريات، ونظَم عشراتِ القصائدِ التي نتجتْ بها قريحته الوقّادة، سواءً في المناسبات، أو حولَ أفكاره، وما أكثرها! وسيجد القارئُ ديوانَه زاخراً بنماذج فريدة، ومن العجيبِ؛ أنه يجيدُ النثرَ كما يجيد الشعر، ثم اشتدت عليه وطأةُ المرض، وكنتُ أزورُه في المستشفى كلّ يومٍ وهو لا يفتر، من الدعاء والاستغفار والتسبيح، رحمه الله رحمة واسعة، و أسكنه فسيح جنّاته ، بكَت لفراقه العيون، وجفّت الكلمات على الألسن، ولكن تَبقى الذكرى والدعاء، واليقينُ بالله بأن يجمَعنا به في جنّات النعيم، إنّا لله و إنّا إليه راجعون، و الحمد لله ربِّ العالمين.
جدة في 20 ذي القعدة 1429هـ.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق