الثلاثاء، 26 مارس 2019

تاريخ الصحافة في حضرموت - محاضرة للسيد العلامة محمد بن أحمد الشاطري سنة 1945م

تاريخ الصحافة في حضرموت(*)
بقلم العلامة الأستاذ محمد بن أحمد الشاطري رحمه الله
(1331  1422هـ)

لقد عرف أبناء الحضارم الصحافة كمؤسسين للصحف، ومدراء ورؤساء تحرير، منذ زمن يقدر بما قبل العقد الرابع من هذا القرن الهجري، والعقد الثاني من هذا القرن الميلادي، أما فيما قبل ذلك فقد كان الحضارم ما عدا النادر منهم- يتقززون من الصحف والمجلات، وينظرون إليها كنظرتهم إلى الجيفة القذرة التي يغضون عيونهم عنها، ويكممون أفواههم وأنوفهم خوفا من شمها، شأنهم في هذا شأنهم مع كل إصلاح جديد يدخل عليهم!
وقد كان الشباب المتنور إذا أراد أحدهم أن يطالع بعض الصحف التي تتسرب من الخارج في الخفاء ينزوي بنفسه في حصن حصين، حيث يأمن عيون الرقباء ووشاية الواشين به إلى أرباب النفوذ الروحي والاجتماعي من الشيوخ وغيرهم، وكيف لا يحتاط هذا الاحتياط وهو يريد عملا يعده أولئك جريمة من أكبر جرائم ذلك العهد؟
وأكبر حجة يحاربون بها الصحف: هي أنها في زعمهم مخالفة لسيرة السلف، والحقيقة أن سيرة السلف لا تحارب الجرائد، إنما تؤيدها وتناصرها فيما تحمله من حق وحقيقة، لكن جهلهم بهذه السيرة لا يقل عن جهلهم بقيمة الصحافة وأثرها، و(المرء عدو ما جهل)، وهذا مثال من الأمثلة التي تعطينا صورة طبق الأصل عن حالة الثقافة العامة وقتذاك.
وبالرغم من هذا كله، يمكننا القول إن أبناء حضرموت قد سبقوا إخوانهم ليس في اليمن فحسب، بل وفي الجزيرة العربية كلها، في بدئهم بإصدار الصحف والمجلات.
أما ذلك الدور المؤلم الذي وصفناه، فقد اجتزناه بما فيه من خير وشر، وسعادة وشقاء، ومر علينا كما مر على كثير من الشعوب قبل بداية نهوضها، وسرعان ما وصلنا فيما بعد إلى دور هو أخف وطأة وأكثر تسامحا وابتعادا عن الفشل، ففي 1917م انتشرت في تريم فكرة إصدار صحيفة إخبارية أدبية، ولكن من هو الذي سيجد الإقدام على ذلك، مضحيا بسمعته بين الشيوخ والعامة؟ ناصبا نفسه هدفا لسهام الشتائم والتقريع؟ ولماذا يزج بنفسه في ذلك المأزق الحرج؟
لكن شابا واحدا تصدى لذلك، هو شيخ بن عبدالرحمن بن هاشم السقاف، عضو جميعة نشر الفضائل، وأستاذ إحدى مدارسها، الذي أصدر صحيفة (حضرموت)وهي غير صحيفة (حضرموت) التي يحررها الأستاذ محمد بن هاشم في المهجر الإندونيسي، كما أن ابن هاشم هذا غير ابن هاشم ذاك.
ولقد أصدر الشاب المشار إليه أول صحيفة خطية أسبوعية عرفها شعبنا في حضرموت، كان يقوم بإدارتها ظاهرا، ويشاركه نخبة من أعضاء تلك الجمعية في القيام بتحرير كل ما ينشر فيها، بصورة سرية، وحين صدور أول عدد منها ثارت ثائرة الشيوخ، وصبوا جام غضبهم على مديرها الذي لم يستطع هو ورفاقه أن يدافعوا عن صحيفتهم سوى مدة وجيزة، أصدروا خلالها أربعة أعداد فقط، ثم اختفت صحيفتهم في مهدها.
وظل أولئك الشباب متألمين من هذه العاملة القاسية التي أحدثت ردود فعل إيجابية، إذ أصدر الأستاذ علي أحمد باكثير عقب ذلك (مجلة التهذيب) في سيون، بينما كان الأستاذ عبدالله بن أحمد بن يحيى قد بدأ في الوقت نفسه بإصدار زميلتها (مجلة عكاظ)، وكلتاهما أدبية شهرية خطية، ولكنهما لم تدوما طويلا، ولم يصدر من كل واحدة منهما سوى بضعة أعداد، وأكثر الأسباب في توقفهما يعود إلى عدم وجود كُتَّابٍ ونسَّاخين، غير أن الأستاذ باكثير استطاع فيما بعد أن يتم إصدار أعداد من مجلته لمدية سنة كاملة، ثم طبعها على نفقة الثري أبي بكر بن شيخ الكاف.
أما في العقد الماضي من هذا القرن، أَي بين سنة 1935-1945م تقريبا، فقد حدث انقلاب عجيب وتطور غريب، إذ تمخضت حضرموت من أقصاها إلى أقصاها، وفي ساحلها وداخلها، بحركة صحافية تبشر بالمستقبل المشرق، إذ عادت إليها آمنةً مطمئنة بعد أن كانت تهاجم وتطارد بين الأوساط العلمية حتى طعنت جمود الجامدين والمعارضين طعنات لفَظتْ معَها معارضَتُهم النفسَ الأخير.
ولقد صدرت في سنوات متقاربة من هذا العقدصحف ومجلات عِدَّة، ففي الشحر أصدر السيد عبدالقادر بن أحمد بافقيه صحيفة لا أستحضر اسمها الآن.
وفي المكلا صدرت (صحيفة المنبر) التي حررها نخبة من شباب المكلا يرأسهم الشيخ يسلم بن عبده حوالي 1937م، وهي أول صحيفة في حضرموت  مطبوعة، إذا استثنينا صحيفة النهضة الحضرمية التي أصدرها من قبل الشيخ الطيب الساسي، والتي كانت لسان حال المؤتمر الإصلاحي الحضرمي في المكلا، ولكن لم يصدر منها سوى عدد واحد عطلت بعده لأسباب سياسية، وتلت بعد ذلك (مجلة الإخاء) التي أصدرتها جمعية الأخوة والمعاونة بتريم، وحررها نخبة من أعضائها، وصدرت في بادئ الأمر خطية في 1938م، ثم جلبت لها مطبعة يدوية، واستمرت نحوا من سنتين، ثم أرغمتها ظروف الحرب العالمية الثانية على الاحتجاب، ولا تزال مجموعتها محفوظة وفيها مقالات ممتعة وبحوث قيمة، كثير منها للأستاذ محمد بن هاشم بن طاهر.
وفي ذلك الوقت صدرت من المسيلة (مسيلة آل شيخ) مجلة (الحلبة) التي أدارها موسى الكاظم بن يحيى أحد أفراد البعثة الحضرمية المتخرجة من العراق فيما بعد، وكان الأستاذ ابن هاشم يمده بالمقالات القيمة.
وأذكر في هذه المناسبة أنه لما وصلت أعداد قلمية منها إلى مصر أعجب بها كثيرون ممن اطلعوا عليها، وأشفقوا على صاحبها من هذا العناء الذي يتحمله في سبيلها، حتى كتب الأستاذ محمد علي الطاهر كلمة في صحيفة (الشباب) حولها، وأثنى على نشاط محرها، كما نحى باللائمة على الأغنياء البخلاء في وطننا الذين لم يساعدوها وصرَّحَ باسم البعض منهم.
وصدرت في ذلك العهد أيضا في شبام (صحيفة الضمير)، وفي سيئون (صحيفة أخرى عرفت بسيئون، وكل هذه الصحف قد توقفت أو احتجبت لأسباب يرجع معظمها إلى عدم توفر الوسائل المادية والأدبية لتسييرها، ولم يبق في حضرموت اليوم(1) من الصحف سوى صحيفتين في سيئون، تدعى إحداهما (زهرة الشباب) والأخرى تدعى (الشباب) يتدرب بعض الشباب على الكتابة وقرظ الشعر فيهما، ولا أدري هل لا تزالان تصدران حتى ساعة إلقاء هذه المحاضرة أم لا؟  مع العلم أنهما خطيتان، ومعهما جريدة (الأستاذ) التي تصدر في غيل باوزير.
للحقيقة فقد ظهرت في هذا العهد بوادر نهضة ثقافية شاملة، ليست في الصحافة فحسب، بل وفي جميع النواحي الثقافية الأخرى، من أندية وجمعيات ومكتبات، ومدارس للبنين والبنات، وبعثات في الخارج والداخل، وأصبح كثير من الشباب في حضرموت يحس ويشعر بوجوب التعليم والثقافة، إلا أن استعداده للأسف لا يزال ناقصا.
تاريخ الصحافة في المهجر:
أما تاريخ الصحافة الحضرمية في المهجر غهو أبرز بكثير من تاريخها في الظطن، ولعل أول صحيفة أصدرتها الجالية الحضرمية في مهجرها هي (صحيفة الإقبال)، التي أدارها الشيخ محمد بن سالم بارجاء سنة 1917م، ولكنها لم تعش طويلا.


ثم ظهرت صحيفة (حضرموت) التي يمدها الأستاذ محمد بن هاشم بكتاباته، ويشاركه بعض شباب الجالية الحضرمية في سورابايا، وصاحب امتيازها السيد عيدروس بن عمر المشهور، وصدورها حوالي 1920م، وجريدة حضرموت هذه هي الصحيفة الحضرمية الفذة التي برهنت بحق في ذلك العهد على كفاءة اليمني واستعداده للتفوق  في الميدان الأدبي والصحافي، ويعود أكثر الفضل في ذلك للأستاذ محمد بن هاشم الذي تتميز مقالاته بالبلاغة والسحر الحلال، حتى أن كثيرا من الكتاب السوريين والمصريين اشتركوا فيها لإعجابهم بها، ويقول قائلهم: إن أسلوب ابن هاشم الكتابي هو الأسلوب البليغ الذي ينسجه على منوال أسلوب عبدالحميد وابن المقفع والجاحظ وابن العميد، ولعل ابن هاشم هو الكاتب اليمني الوحيد الذي لا ترضى أن تترك مقالته حتى تأتي على آخرها في لهف وشوق.
وقد طال عمر هذه الصحيفة أكثر من أي صحيفة حضرمية أخرى، ثم توقفت بعد صدور عشر سنوات أو ما يقارب منها في صدورها.
وقد أصدر الأستاذ محمد بن هاشم نفسه (جريدة البشير) قبل أن تصدر جريدَة (حضرموت) التي أشرنا إليها آنفا، ولكن عُمْر (البشير) لم يطل كثيرا.
وقبل أن تقف (حضرموت) بمدة غير طويلة بدأت تصدر عدة صحف ومجلات كما صدرت صحف أخرى في جاوة منها (مجلة الرابطة العلوية)، التي أصدرها الأستاذ أحمد بن عبدالله السقاف، وهي لسان حال جمعية الرابطة العلوية، ومجلة (المصباح) و(الدهناء) وهما لسان حال الإرشاديين، وممن حرر فيهما: الأستاذ عمر هبيص، وأصدر محمد التونسي الهاشمي قبلهما مجلة أسماها (بوروبودور) متعاطفة مع الإرشاديين، وبورُوربودُور اسم لآثار قديمة يقال إنها ترجع إلى العصر الحجري في مقاطعة جقجا في إندونيسيا.


(*)  هذه المحاضرة ألقاها شيخنا العلامة الشاطري رحمه الله، في مكتبة الشعب بالمكلا، مساء السبت الأول من جمادى الأولى سنة 1364 (= 1945م)، ونشرت على صفحات مجلة الحكمة اليمانية الصادرة في أكتوبر 1971م.
(1)  أي بتاريخ إلقاء المحاضرة 1945م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق