خواطر الإصلاح والتناصح (2)
لامني البعض على شدة الخطاب في مقالة
الأمس، التي انتقدت فيها تصدر بعض الأغمار في مواضع لا يحسن من أمثالهم التصدر فيها،
بل ولا يحق للكثيرين منهم الجلوس في صدورها. ولكن الأمر كما قال الشاعر:
ولكن البلاد إذا اقشعرت ** وصوح نبتها
رعي الهشيم
وكلنا ذلك الهشيم ..
البعض ذهب يضرب أخماساً في أسداس
.. ظاناً أن كلامي منصب على بعض الفضلاء من المتصدرين للدعوة والإرشاد. وذلك الظن خاطئ،
فكيف ألوم وأنتقد من يقوم بفرض كفاية، أو لعله فرض عين عليه.
كيف نلوم رجلاً أن يقول ربي الله،
ويدعو لأحسن الدعوات، (ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله).
الدعاة الى الله، ولو كان الواحد منهم
لا يحسن إلا فاتحة الكتاب، يجب على الجميع دعمه ودفعه الى الأمام، ويحرم تخذيله والإعراض
عن دعوته، ما دام يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .. وهل الدعوة إلا تذكير بالله وبرسوله
وبدينه ورسالته .. وذلك يتأتى بأدنى درجات الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
إنما نقدنا وتصدينا بالإنكار، ينصب
على من يظن نفسه بمجرد تصدره وتصديه للدعوة العامة، أصبح من شيوخ الإسلام، وعلماء الدين
والملة، فتجده يتخاذل عن إتمام طلب العلم، ويكسل عن المطالعة والقراءة والترقي في مقامات
الفهم والوعي ..
إنه فيروس الادعاء، وهو فيروس إبليسي
عديم النظير. لا يماثله إلا جرثومة حب الظهور؛ وطاعون العُجْب .. والعياذ بالله.
إن الداعية الصادق مع ربه ومع نفسه
ومع الناس .. هو من يغلب على أفعاله البساطة والأريحية، ومن يعود نفسه التواضع وحب
الآخرين، والتواصل مع كافة شرائح المجتمع ..
لنأخذ مثالاً من مجتمعنا العلمي الدعوي
..
الإمام عبدالله بن علوي الحداد ..
جبل العلم الأشم، وطود التواضع، وعلم الدعاة الأبرار .. هو من هو في علمه وورعه، ومكانته
السامية.
آذاه أهل بلده، وسموه الأعور (العيور)،
بلهجة تريم، وأعرض الكثيرون منهم عن دروسه ومجالسه .. حتى قال تلميذه السيد العلامة
محمد بن زين بن سميط (ت 1172هـ)، لقرينه وزميله في الطلب العلامة السيد عمر البار
(ت 1158هـ): أتعجب من أهل عصرنا كيف أعرضوا عن شيخنا!؟
فأجابه البار: هذا من فضل الله علينا
.. فلو أقبل الكل عليه، لما وجدنا مطرح قدم في مجلسه ..
الإمام الحداد كان يتنزل للصغير والكبير،
ويقبل على كافة شرائح المجتمع، نمى الى علمه مرة أن شخصاً ممن يكثر الترداد عليه، وهو
الشاعر بن زامل، قد تولع بامرأة وأحبها، وأخذ يشبب بها في شعره.
فطلب من مجالسيه أن يشعروه عند قدومه،
فجاء مرة للسلام عليه، فأعرض عنه الإمام .. رغبة في تأديبه، وخشية من أن يقال إنه يقره
على ذلك الأمر غير اللائق .. فشعر بن زامل أن الإمام قد بلغه شيء عنه.
فانصرف من مقامه، وأتى فجر اليوم التالي
الى المسجد الذي يصلي فيه الإمام، وكمن بعد الصلاة، متعرضاً للإمام في خلوته ..
وبعد أن فرغ المسجد، وفرغ الناس من
سنة الإشراق. أراد الإمام أن ينصرف، فشعر بوجود شخص في المسجد، على غير المعتاد. فنادى:
من هنا؟
وإذا بابن زامل يرفع عقيرته بأبيات
تفوح منها روائح المحبة الصادقة، فقال:
يقول بن زامل سلام الاف على الوجه
النوير
لو حد نبي بعد النبي بانقول بن علوي
نذير
حاشاك تتنعم وسط جنة .. وبن زامل سعير
ثم أقبل بن زامل يكب على قدمي شيخه
يقبلها، ويذرف الدموع في حجره، ويسارع بالندم والتوبة. فتبسم الإمام، وقال: علمت أنك
سترجع وتتوب. ثم دعا له، وأخذ بيده الى باب بيته، وانصرف.
ومثال آخر .. وقصة أخرى
الحبيب الجليل، الإمام عمر بن عبدالرحمن
العطاس (ت 1072هـ)، شيخ الإمام الحداد، وأستاذه، كان هو الآخر قمة في التواضع، يألف
الناس ويألفونه. لا يأكل إلا مع ضيف، ولا يجلس مختلياً الا لذكر أو في خاصة بيته .. والا فهو مع الناس في كل اوقاته.
كان جالساً مع أصحابه وتلاميذه يوماً
في إحدى العشايا .. فانتهى من درسه في وقت مبكر على غير عادته .. وحمل رداءه على كتفه،
وتأهب للنهوض.
فسأله جلساؤه: الى أين ؟
فقال لهم: جار لي، نتجت ناقته اليوم،
فأحب أن أذهب لأهنئه بالنتاج!!.
فتعجبوا .. ثم قاموا كلهم خلفه.
فانظروا الى هذه النفوس الصافية.
بهذه الأخلاق، وتلك الصفات الكريمة،
وحسن الاحتواء للناس، والتنزل الى معافهم ومداركهم، أقبل الله بالقلوب عليهم. هذا نموذج
عال من نماذج الدعاة الى الله .. فهل نحن اليوم نقتفي سبيل الدعاة الأوائل في هذا الخلق العظيم؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق