التراتيب الإدارية
عنوان كتاب قيم ونفيس، لم يؤلف مثله في بابه، من تأليف عبدالحي بن عبدالكبير الكتاني الحسني الإدريسي (ت 1382هـ/ 1962م)(1)، واسمه تامًّا (التراتيب الإدارية والعمالات والصناعات والمتاجر والحالة العلمية التي كانت عند تأسيس المدنية الإسلامية في المدينة المنورة العلية)، هذا العنوان هو الذي وضع على غلاف الكتاب عندما طبع في حياة مؤلفه سنة 1346هـ/ 1927م. واشتهر أيضا بعنوان آخر مختصر وهو (نظام الحكومة النبوية).
نشر هذا الكتاب في حياة مؤلفه، وصدرت له عدة طبعات، منها الجيد ومنها الرديء. وأصحّ طبعةٍ هي التي طبعت في فاس على حياة المؤلف سنة 1346هـ/1927م، واشتملت على تقاريظ لكبار علماء ذلك العصر، وعددهم نحو الثلاثين عالماً. تقع في مجلدين، عدد صفحات كل مجلد تقرب من 500 صفحة.
من أبرز وأشهر المقرظين على الكتاب عند صدوره: عباس بن عبدالرحمن الشرقي رئيس المحكمة العليا بفاس، وعبدالسلام غازي قاضي طنجة، وأحمد بن المدني قاضي مراكش، ومحمد الطاهر بن عاشور مفتي تونس، ومحمد حبيب الله الشنقيطي من علماء الأزهر، وأحمد زكي باشا شيخ العروبة، وغيرهم، كما كتبت عنه عدد من الصحف الإسلامية الصادرة حينذاك.
ثم صدرت له نشرات أخرى مبتورة وناقصة، منها نشرة صادرة عن دار إحياء التراث العربي في بيروت، نشرها حسن جعنا تحت مسمى (نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية). وأخرى نشرتها دار الكتاب العربي، وكلاهما دون تاريخ. وثالثة صدرت سنة 1413هـ/1993م، عن دار الفكر بدمشق، بتحقيق مركز جمعة الماجد. ورابعة صدرت عن دار الأرقم بن أبي الأرقم في بيروت، بتحقيق عبدالله الخالدي. يقول حمزة بن علي الكتاني عن هذه الطبعات: "الطبعة الكاملة هي المصورة عن الطبعة الفاسية في مجلدين، أما طبعة الخالدي وغيرها، فهما تشويه وبتر لنحو ثلث الكتاب، ولا يعول عليهما، بل الطبعة المصورة حذف منها قسم التقاريظ، وهو قسم مهم للغاية"(2).
وأصل كتاب (التراتيب الإدراية)، هو كتاب (تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله r من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية) لعلي بن محمد الخزاعي التلمساني ثم الفاسي (ت 789هـ/1387م)(3)، صنف كتابه هذا سنة 786هـ/1384م، للسلطان المتوكل على الله أبي فارس المريني. وقد صرح الكتاني في مقدمة كتابه بنقله عنه، وتكميله لفصول كتابه. قال في مقدمة (التراتيب): "ومن أعظم ما اعتمدته وسايرته كتاب تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله r من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية، وإن كنت لم أقف عليه كاملا، ولكن على ترتيبِ ما وقفت عليه منه اعتمدت، وعليه أضعاف أضعاف فصوله وأصوله ونقوله زدتُ واستدركتُ، مع تمييز الزيادات عليه غالبا برسم حرف الزاي قبلها، أو (قلتُ)، كما فعل ابن حجر في الإصابة فيما زادَه على الذين دوّنوا قبله فيما دوَّن فيه. وجعلتُ خطوطاً بالمِداد الأسود (شرطاتٍ) على كلامه، ليظهر كلامُه من زياداتي، فكلما رأيتَ التأشير متصلا بالمداد الأسود من فوق فهو كلام الخزاعي، وابتداءُ كلامي من رسم حرف الزاي ثم (قلت). وإن رسمت الزاي وبعدها (قلت) قبل الترجمة، فاعلم أنها وما فيها من استدراكاتي، وإن رسمتُ الزايَ وبعدها (قلتُ) بعد كتب الترجمةِ، فاعلم أن الترجمة للخزاعي، والزيادة والاستدراك كلها من زياداتي"(4).
وقال أيضاً بعد أن أورد فهرسا كاملا لكتاب الخزاعي، وأتبعه بفهرس لما زاده عليه وهو الباب العاشر بكماله وتمامه قال: "وبتتبعك لأبواب الكتاب ووقوفك على الحقيقة في المدونين تعلم أننا أتينا على زبدة كتاب الخزاعي وحذفنا مكرره واستطراده وما لا حجة أو حاجة فيه. وزدت عليه أضعاف أضعاف ما ذكر من كل قسم من الحرف والصنائع والعمالات والصفاتِ، بحيث وفِّقْنا، والحمدلله، لكثير من المظانّ التي لا تخطر ببالٍ ولا كانت في الحسبان. ولم أقلّد أبا الحسن الخزاعي في غالب عزْوه، ولذلك إن كان الكتاب الذي نقلَ عنه مطبوعاً أذكر الصحيفة الواقع فيها ما نقل منه. ولا شك أن موادَّ هذا الموضُوعَ سُهلت الآن بما أظهرَته مطابعُ الشرق والغربِ من الضنائن التي بتتبعِ أسماء فهارس المطبوعات شرقا وغربا لا يبقى ريبٌ في أنه يتيسَّر اليوم ما عَسُر إدراكُه على كثيرٍ ممن سبقَ، وليس بعد العيان بيان"(5).
فإذا ما قرأنا هذا الكلام الصريح، ففي الحقيقة ليس هناك أي معنى لما ورد عند البشير الإبراهيمي (ت 1380هـ/ 1960م)، وهو معاصر للكتاني، بأنّ الكتاني قد سطا على كتاب الخزاعي وانتحله لنفسه، فهذا أولاً من كلام الأقران والمعاصرين في بعضهم البعض، على أنها تهمة داحضة بكلام الكتاني نفسِه، ولم يزل علماء الإسلام منذ قرون متطاولة ينقلون عن بعضهم البعض ويلخصون كتب من قبلهم ويزيدون عليها. ويبدو أن الزركلي قد تأثر بكلام الإبراهيمي فقال: "اطلع عبدالحي الكتاني على نسخة منه غير تامة، فأضاف إليها زيادات كثيرة ونسب الكتاب كله إليه، وسماه (التراتيب الادارية) ط، في مجلدين، وعلمتُ أن ما فات الكتاني من كتاب الخزاعي هو نحو ربعه"(6). ولكنه عاد إلى صوابه وتراجع عن التهمة، بقوله في ترجمة الكتاني، عند ذكر (التراتيب): "استوعب فيه كتاب (تخريج الدلالات السمعية) لأبي الحسن، علي بن محمد الخزاعي، وزاد عليه أضعاف فصوله، وقد فاته الاطلاعُ على جزء منه في نحو ربعه، أرانيه فاضلٌ في تطوان. وأخبرني: أن خزانة الرباط صوّرت نسخةً عنه"(7).
إن كلام الزركلي الأول لم يكن عن معاينة، بل تقليدا لغيره، حيث صدر كلامه بقوله: "وعلمتُ .." الخ، وهذا كلام غير دقيق، كما أن قوله أنه نسب الكتاب كله إليه غير صحيح أو دقيق أيضاً. وكلامه في ترجمة الكتاني أجود وأليق مما أورده في ترجمته للخزاعي، والإنصاف عزيز.
ولعل المؤلف الكتاني كان قد تفرَّس عمّا سيثيره هذا الكتاب من حسد في نفوس أقرانه ومن يأتي بعده، فنراه ينقل نصًّا نادراً عن ابن حزم الأندلسي في خاتمة مقدمته الطويلة، يذكر فيه عواقب الحسد ونتائجه، فيقول: "وإذا كان الإمام حافظُ الأندلس، أبو محمد ابن حزم، يقولُ في (رسالته في المفاضلة بين علماء الأندلس وغيرهم): "أما جهتنا، فالحكم في ذلك ما جرى به المثلُ السائر: أزهدُ الناس في العالم أهلُه. وقد قرأتُ في (الإنجيل): أن عيسى عليه السلام قال: لا يفقِدُ النبيُّ حرمتَه إلا في بلده. وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي r من قريشٍ، وهم أوفر الناس أحلاماً، وأصحهم عقولاً، وأشدهم تثبتاً، مع ما خصُّوا به من سكناهم أفضلَ البقاعِ، وتقديسُهم بالحرم الجباه، حتى خصَّ الله الأوسَ والخزرَجَ بالفضيلةِ التي أبانَهم بها عن جميع الناس، ولاسيما أندلسنا، فإنها خُصّت من حسدِ أهلها للعالم الظاهر فيهم، الماهر منهم، واستقلالهم كثيرَ ما يأتي به، واستهجانهم ما يأتي من حسناته، وتتبعهم سقطاته وعثراته، وأكثر ذلك مدّة حياته، بأضعاف ما في سائر البلدان.
إن أجاد قالوا: سارق مغير، وإن انتحلَ قذعَ، وإن توسّط قالوا: غث بارد، وضعيف ساقط، وإن باكرَ الحيازة لقصَبِ السبقِ قالوا: متى كان هذا؟ ومتى تعلم؟ وفي أي زمانٍ قرأ؟، ولامه الهُبل. وبعد ذلك أن ولجَت به الأقدار أحدَ طريقينِ: إما شفوفاً دائما يعليهِ على نظرائه، أو سلوكاً في غير السبيل التي عهدوها، فهنالك حميَ الوطيسُ على اليائس، وصار غرَضاً للأقوالِ، وهدفا للمطالب، وعرضا للتطرق إلى عرضه. وربما نحل ما لم يقُلْ، وطوّق ما لم يتقلّد، وألحِقَ به ما لم يفه به ولا اعتقده قلبه. فإن لم يتعلق بالسلطان بحظّ، لا يسلم من المتآلف، ولا ينجو من المخالف، فإن تعرض لتآليفَ، غُمِز ولمز، وتعرض وهمز، وسترت فضائله، وهتف ونودي بما أغفل، فتسكن لذلك همته، وتكل نفسه، وتبرد حميته"، الخ كلامه انظر بقيته في (رسالته) المثبوتة في (نفح الطيب).
فليت شعري ما يقالُ بعد خرابِ الأندلس!، وضَعف الإسلام، في القرن الرابع عشر، وجماعُ القول: أن من جهل شيئا عاداه، والمزكومُ لا يجد رائحة العطر، بل يأباه. ويرحم الله أبا الثناء، محمود بن عبد الله الألوسي البغدادي، صاحب (روح المعاني)، إذ يقول :
وإذا الفتى بلغ السماء بفضله ** كانت كأعداد النجوم عداه
ورموه عن حسد بكل كريهة ** لكنهم لا ينقصون علاه"(8).
وعن أهمية الكتاب، قال مؤلفه في مقدمته في سياق ذكر أسباب التأليف: "لهذا وشبهه عن لنا أن تكون عنايتنا في التدوين بالتراتيب الإدارية والحرف والصنائع والمتاجر وأنواع العلوم والمشخصات التي كانت على عهد تأسيس المدنية الإسلامية النبوية حتى يعلم الناس من أبناء ملتنا وعشق التاريخ من غيرهم أن النبي العربي r قد مدَّنَ الشعوبَ، ورقَّى الأممَ، بما أسسَ لهم من مباني العمران وسنَّ من نظامات التقدم"(9).
وعن دحض مزاعم المتخرصين حوله، يقول حمزة بن علي الكتاني: "أصل هذا الكتاب رد على العلمانيين الذين ادعوا بعد سقوط الخلافة أن الإسلام دين روحي وغير صالح للسياسة، وأن النبي r جاء بمكارمِ الأخلاق فقَط، ولا شأنَ له للحكم، فرد عليهم الكثير من العلماء بأساليب فكرية وساذجة، حتى ظهَر الشيخ عبدالحي الكتاني رحمه الله تعالى. هذا الكتاب والذي قرظه نحو ثلاثين من أبرز علماء العالم الإسلامي كلهم ينص ويؤكد على صلاحية الإسلام وأنه نظام حكم.
ومن أهم مميزات الكتاب: أنه أتى بكل شاذة وفاذّة من نظام الحكم وأصّل لها من سيرة النبي r بالرواية والمصادر والمراجع، ثم تفرعَ إلى مئات الفصُول المهمة جدّا في التراتيب الإدارية، وأنظمة الحكم والسياسة، بحيثُ يعد أهمَّ ما كتب في ذلك، وكان صيحةً في وقته.
وقد انتقد البعضُ عليه إيرادَه لأحاديثَ ضعيفةٍ، لم ينبّه على ضعفها، ومن المنتقدين شيخُنا العلامة الألبانيّ في الجزء الرابع من الضّعيفة، بعدَ أن أثنَى عليه بما هو أهله، غيرَ أن جوابَ ذلك: أنّ الكتابَ كتابُ ردّ علَى العَلمانيين، ومعلومٌ في الأصُولِ: أن البابَ إذا لم يوجَد فيه سِوَى حديثٍ ضعيف، يقدم في الاحتجَاجِ على الرأي. والحقّ أن هذا الكتابَ استعصى علَى المحققين فلم يتجرّأوا لتَحقيقه. وسُرِقَ وطبع معَ حذْف قسم التقاريظ الذي هو من أنفَسِ فصُول الكتاب، ثم حققه الدكتور عبدالله الخالدي فبتَر ثلثه وشوهه، وكذلك حققه أحدُ طلبة العلم في سُوريا، ونشرت طبعتَه دار الكتُب العلمية، فبتَر نصفَ الكتاب من غير تنبيهٍ علَى ذلك.
أما دعوى سرِقَته للدلالات السمعية؛ فأينَ الدلالات من التراتيب؟ لقد زاد عليه فصُولا وأبواباً تبلغُ العشراتِ، ونقلَ نقولاً لأناسٍ ولدوا بعد وفاةِ الخزاعي بأحقاب، وتلكَ دعْوَى أطلقَها أعداءُ الشيخ عبدالحي رحمه الله كذباً وبهتانا"(10).
وأما أبرز فصول الكتاب وأقسامه، فهي على النحو التالي:
القسم الأول: في الخلافة والوزارة (الصدارة) وما يضاف إلى ذلك من الخدمات النبوية الشخصية التي كان يقوم بها أفراد الصحابة.
القسم الثاني: في العمليات الفقهية وأعمال العبادات وما يضاف إليها من عمالات المسجد وعمالات الطهارة وما يقرب منها وفي الإمارة على الحج وما يتصل بها.
القسم الثالث: في العمليات الكتابية وما يشبهها وما يضاف إليها.
القسم الرابع: في العمليات الأحكامية وما ينضاف إليها.
القسم الخامس: في ذكر العمليات الحربية وما يشعب عنها وما يتصل بها.
القسم السادس: في العمالات الجنائية.
القسم السابع: في العمالات الاختزانية وما أضيف إليها.
القسم الثامن: في سائر العمالات.
القسم التاسع: في ذكر حرف وصناعات كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر من عملها من الصحابة.
القسم العاشر: في تشخيص الحالة العلمية على العهد النبوي.
وأخيرا، ففي اليمن نوقشت رسالة ماجستير، بتاريخ الجمعة 14 مارس 2008م، عن (الفكر الإداري النبوي في كتاب التراتيب الإدارية)، للباحث فؤاد طه محمد السروري(11).
الهوامش:
1- تنظر ترجمته ومصادرها عند: الزركلي، خير الدين، الأعلام، ط 13، جـ6 (بيروت: دار العلم للملايين، 1409هـ/ 1988م)، 187.
2- الكتاني، حمزة بن علي، رد على سؤال: من يعرّفنا بكتاب التراتب الإدارية؟، موقع ملتقى أهل الحديث. www.Ahlahadeeth.com.
3- الزركلي، جـ5، 6.
4- الكتاني، محمد عبدالحي، التراتيب الإدارية، جـ1 (بيروت: مصورة عن الطبعة الأصلية الصادرة في فاس، د.ت)، 32.
5- الكتاني، محمد عبدالحي، جـ1، 78.
6- الزركلي، جـ5، 7.
7- الزركلي، جـ6، 188.
8- الكتاني، محمد عبدالحي، جـ1، 79-80.
9- الكتاني، محمد عبدالحي، جـ1، 17-18.
10- الكتاني، حمزة بن علي، رد على سؤال: من يعرّفنا بكتاب التراتيب الإدارية؟، (موقع ملتقى أهل الحديث. www.Ahlahadeeth.com).
11-الكتاني، حمزة بن علي، مقال بعنوان: نوقشت باليمن رسالة جامعية حول التراتيب الإدارية للحافظ الكتاني، (موقع روض الرياحين، www.cb.rayaheen.com).
محمد باذيب
10 / 4 / 2012
10 / 4 / 2012
* ملاحظة: كتبت هذه المقالة قبل صدور الطبعة الأخيرة التي نشرتها دار البشائر الإسلامية، بيروت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق