الأربعاء، 27 مارس 2019

ودَاعاً عَالم الشّامِ - في وداع العلامة الدكتور البوطي رحمه الله وغفر لنا وله


ودَاعاً عَالم الشّامِ
بقلم / محمد أبوبكر باذيب
الهند، 23 مارس، 2013






وكانت في حياتك لي عظات ** وأنت اليوم أوعظ منك حيا

اليوم سيوارى الثرى، عالم الشام بلا منازع، عبد ربه، الفقير إلى رحمة ربه ومغفرته، الرجل الذي عاش ملء السمع والبصر، العالم الفذ الذي لا يشق له غبار، ذو التصانيف البهية، والكلمات العذبة الندية، الذي كم نهل من معين علمه الموافق والمخالف، الذي كانت مجالسه مجالس علم وخشية، الرجل الذي كم استدر بحسن بيانه وفصاحته الدموع، وكم أطرب الآذان وأبهج النفوس بتلك المعاني التي يغرفها من بحر الحكم، والذي قاوم المادية العلمية بسلاحها الفكري، والأديب المترسل صاحب القلب العطوف، الذائق المحب العابد الذاكر، الرجل الذي ثبت على مبدأه ولم يحد عنه، حتى قضى نحبه في الأرض المقدسة التي ولد على ثراها، وهاهو اليوم سيودع ثراها .. محمد سعيد ابن الشيخ العارف بالله الملا رمضان البوطي الكردي الشافعي الأشعري النقشبندي.


اليوم سيوارى جثمانك الثرى ..
اليوم سيلقي عليك أهلك ومحبوك نظراتهم الأخيرة ..
أيها العالم الذي انتفع الناس بعلمه، وأنا ممن تتلمذ على كتبك، وانتفعت بها كما انتفع بها الآلاف غيري .. لم أكتب هذه السطور لأرثيك، ولم أكتبها مدحاً لك، أو إشادة بعلمك، فمن أنا ومن أنت، وماذا عساني أن أقول في هذا الباب، فلا ينكر فضلك وعلمك إلا حسود أو حاقد. ولو أن مخالفيك أنصفوك، لما افتروا عليك ما افتروه، وتشفوا من مقتلك كما سمعنا وقرأنا ..
إنما أكتب هذه السطور، ودمعي يتحدر، وعبراتي تسابقني .. أتذكر معها شهداء الشام، وتتمثل أمام عيني صور الأشلاء ممن حصدتهم آلة القتل المجنونة، في فتن عمياء بكماء صماء .. وأمام عيني وناظري صور الأطفال الصغار الذين ذبحوا بلا رحمة ولا هوادة، صور النسوة اللواتي تدرعن بالسواد، صغاراً وكباراً .. صور المقابر الجماعية والأخاديد التي حفرت لتستوعب تلك العشرات والمئات من موتى المسلمين ..
أيها الراحل .. سنفتقدك عالماً، ناصحاً، صاحب مبدأً .. نعم، لا ننكر هذا. ولكن: هل ترانا سنفردك بالبكاء والدموع دون أولئك .. هل سننسى في غمرة أحزاننا أحزاناً ودموعاً لم ترقأ، وأكباداً حرى .. وأيتامى وأيامى .. كلا، فهو أمر صعب جداً على كل ذي نفس حرة، وعلى كل من في قلبه ذرة من الرحمة. لن ننسى شهداء الشام والمظلومين الذين ماتوا ونبكيك منفرداً .. فرحمات الله عليكم أجمعين. وكل منا ومنكم سيلقى الله منفرداً، وسيحاسب على عمله منفردا، (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
أيها الراحل .. كلنا إلى الموت نصير، وكلنا إلى القبر راحلون:
ومن لم يمُتْ بالسيفِ ماتَ بغيره ** تعدّدتِ الأسبابُ والموت واحد
كان قدرك أن تكون من أبناء الشام، ومن أبرز أعلامها، وكبار علمائها .. وأن تمتحن في حياتك بالقرب من الحاكم الغاشم، ليتك لم تكن كذلك .. لكنه قدرك.
كان قدرك أيها الراحل الكبير، أن تكون في ذلك الموضع الذي أقامك فيه ربك .. فتكون للناس فيك دروس وعبر، وأي عبر.
تمنيتُ لمن في علمك وشموخ كبريائك أن لا يكون ممن يمتهنهم ذلك النظام الخسيسالوضيع النذل القذر  ..
ألم يكن في مقدورك أن تعيش بعيداً عنهم!!
ألم يكن في مقدورك أن تهاجر من ديارك كما فعل غيرك!!
كان في مقدورك ذلك، ولكنك كنت تتمثل ثبات الأوائل في حماية الأوطان .. وكنت ترجو أن تطفأ نار الحرب، وأن تحقن الدماء التي خشيت عليها أن تراق .. ولكن: اتسع الخرق على الراقع، وأتى أهل الشام ما كنت تخشاه. فكان وقوفك غير محمود، وبقاؤك في موضعك ذاك ..  قرة عين المبغض والحسود ..
لا فائدة من التمنيات .. قدمت على ربك، وهو أعلم بحالك ونيتك. وقد استودعناك لديه وهو الرحيم العدل الحكيم، نرجو لك الغفران، وندعو لك بالرحمة، وحاشانا أن نكون من الشامتين بموتك وإن كان هناك من يشمت، وليتهم يسألون أنفسهم لماذا يشمتون؟
أولئك المتألون على ربك أن لا يغفر لك ويدعون لك ببئس المصير .. ألم يسألوا أنفسهم، ويقفوا قليلا: أي مصلحة كانت لك من قربك من النظام؟ وأنت شيخ كبير!. لم تكن بحاجة إلى دعم النظام، ولم تكن مستقوياً به، ولم يكن مطمع في مناصب وأنت من أنت ..
أعيذك أن تكون راضياً، لو كنت عالماً بكل تفاصيل ما يجري حولك، بالقتل والتعذيب .. أقول لنفسي: لعلك كنت تداهن البعثيين وتقف بينهم وقلبك يلعنهم .. أيكون موالياً للكفار، راضياً بأفعالهم، من دموعه تبلل نحره كل يوم وليلة خشية من ربه؟!! وهو من هو مثالا للإخلاص والزهد وحب الله والدلالة عليه!! لا والله، حاشاك، وهذا ظني واعتقادي فيك.
لقد كان ثباتك ووقوفك في أرضك، وفي دمشق، وصمودك الرهيب وأنت بين براثن الكفر والطغيان .. مضرب مثل، كان ولن يزال، وإن كان هذا يؤخذ عليك من قبل من أوذوا وأخرجوا من ديارهم، فماذا كانوا ينتظرون منك؟. كنت صاحب مبدأً، يحدثنا صمودك بلسان حاله عنك أنك تقول: إذا خرجت مثل من خرجوا، لمن نترك هذه الديار، وهذه الأوطان؟ ولمن نترك أمتنا وشعبنا، فلنصبر ولندار النظام بما نستطيع .. ونقترب من رأس الحكم حتى نأمن مكره، فنؤدي رسالتنا وأمانتنا تحت أنظاره، فماذا نريد أكثر من تنوير الناس، ودلالتهم على الهدى، والأخذ بأيديهم إلى طريق الله.
فإما حياة تسر الصديق ** وإما ممات يغيظ العدا
كذلك كنت في نظري .. فمن شاء أن يرضى عن فعلك فليرض، ومن شاء أن يسخط فليسخط .. وهذا ما ظننته فيك، وإن كانوا يأخذون عليك فتاوى يقولون: إن الخبثاء استباحوا بها دماء الثائرين .. لكن فتواك بحرمة قتل المدنيين هي الأصل، فهم يتذرعون بهذه الفتوى. وهي صحيحة، ولم يكن لمثلك أن يفتي بسواها .. ولقد كنت من أهل نظر واجتهاد. ومثلك أهل للاجتهاد، ومثلك أهل للنظر، ومثلك مصدر لقول يسمع، ومثلك يؤجر إن أخطأ ويثاب إن أصاب .. الكل يشهد بهذا، حتى من تنكب سبيلك، وقال إنك كنت صاحباً له يوما ما .. له فتاوى مماثلة لفتاويك، عندما كان في مثل موقفك، فلماذا هو اليوم يقليك ويجفوك ويعاديك؟! مثلك ممن قصدهم القائل بقوله:
* فيك الخصام وأنت الخصم والحكم *
ولو لم تكن أنت أنت .. لما تحركت فيك الألسن والأقلام .. هذا، وأستغفر الله العظيم إن زل اللسان والقلم، وبالله سبحانه المعتصم، وهو القصد والغاية، وليس لما في سواه غاية ولا مقصد.
اللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به، اللهم إنا نسألك أن تغفر له ما فرط من أعماله، وتؤجره على ما قدم من حسن عمل، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن مسيئا فتجاوز عنه بمنك وكرمك. وتقبله مع إخوانه ومن تقدمه ولحق به من الشهداء والصالحين، ارفع درجاتهم، وكن لأهاليهم وذويهم راحماً وناصراً ومعيناً. اللهم أطفئ نيران الفتن، ما ظهر منها وما بطن .. اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبنا، ورحمتك أرجى عندنا من أعمالنا.
وصل اللهم وسلم على عبدك ونبيك وحبيبك، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشفعه فينا بمنك وكرمك، وبجاهه نسألك يا أكرم مسئول أن تعافينا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن. والحمدلله رب العالمين.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق