الحمدلله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
وبعد؛ فهذه مقالة لطيفة في تحقيق أحد المواضع والمعالم التي وردت في كتب السنة المطهرة، وهي ثنية المرار، دعاني لكتابتها وتحريرها تطلب كشف إشكال علق بذهني من تعارض بعض عبارات الفقهاء والمؤرخين في إثبات موضعين بالاسم نفسه، فلعل أحداً يقف على الإشكال فيسعف بحله، أو يوافقني على ما ذهبت إليه في خاتمة المقال.
ثنية المرار، (بكسر الميم وتخفيف الراء، وقيل: بضم الميم، وقيل: بفتحها)(1)، ورد ذكر هذه الثنية في حديث يوم الحديبية الطويل، الذي أخرجه أحمد في (مسنده)، من طريق عروة بن الزبير، وفيه: "فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض، على طريقٍ تخرجُه على ثنية المرار والحديبية، من أسفل مكة. قال: فسلك بالجيش تلك الطريق، فلما رأت خيلُ قريش قترةَ الجيش قد خالفوا عن طريقهم، نكصوا راجعين إلى قريش. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك ثنية المرار بركت ناقته، فقال الناس: خلأت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلأت، وما هو لها بخلُقٍ، ولكن حبسَها حابسُ الفيل عن مكة، .."، الحديث(2).
وفي (صحيح مسلم) عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يصعد الثنية، ثنية المرار، فإنه يحطّ عنه ما حُطَّ عن بنى إسرائيل"، قال: فكانَ أولَ من صعدها خيلُنا، خيل بني الخزرج، ثم تتامَّ الناسُ3). قال ابن الأثير في (النهاية في غريب الأثر): "وإنما حَثَّهم على صُعُودها لأنها عَقَبة شاقَّة وَصَلوا إليْها لَيْلاً حين أرادوا مكة سَنَة الحُديْبية فرغَّبهم في صعودها . والذي حُط عن بني إسرائيل هو ذُنُوبهم من قوله تعالى [ وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ]"(4). وهذه الثنية تعرف اليوم باسم: (فجّ الكَرِيمي) (5)، نسبةً للأشراف ذوي عبدالكريم البركاتيين.
فعلى موجب هذه الروايات تكون هذه الثنية في منطقة مكة المكرمة، وهو الذي صرح به شُرَّاح الحديث، والمؤرِّخون والجُغرافيون، فقد صفها ياقوت بأنها مهبط الحديبية(6). وقال ابن الأثير: "هو موضع بين مكة والمدينة من طريق الحديبية"(7). وقال ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري): "هي طريقٌ في الجبلِ، تشرف على الحديبية، وزعم الداوودي الشارحُ أنها الثنيةُ التي أسفل مكةَ، وهو وهمٌ"(8).
موضع الإشكال:
ورود اسم (ثنية المرار) في حديث الهجرة الذي أخرجه الحاكم في (المستدرك)، من حديث السيدة عائشة، رضي الله عنها، وفيه: أن ابنَ أُرَيقط عارضَ الطريق، بعد أن أجاز قديداً، ثم سلك بهما الحجازَ، ثم أجازَ بهما ثنية المرار، ثم سلك بهما الحَفْياء، ... إلى آخر الحديث(9).
إن وصْفَ هذه الثنية في رواية الحاكم يشير إلى أنها غير تلك التي في الحديبية، وهو ما ذهب إليه القاضي عياض وصرَّح به في (مشارق الأنوار)، بقوله: " أراها بجهة أحُد"(10). لكن السمهوديّ ردَّ كلامه، ورجَّح أن المقصودة بالذكر هنا، هي نفسها التي في الحديبية(11).
واعتراض السمهودي رحمه الله، مشكلٌ، لأن ورود (الحَفياء) في رواية الحاكم، وهي ثنية معروفة قرب المدينة، مما يعضُد كلام القاضي عياض، بمغايرتها لتلك المكية، كما أن في كلام القاضي عياض رحمه الله، بوصفه لها أنها بقرب أحد، بُعدٌ أيضاً، فأين قُدَيد والحفياء من الحديبية وأحُد!.
الحاصل:
فالذي أخلص به من هذا: أن ثنية المرار المكية، والتي تعرف اليوم بفج الكريمي، وهو فج قريب من وادي فاطمة، يسكنه الأشراف ذوو عبدالكريم البركاتيون الحسنيون، هي الثنية نفسها الوارد وصفها وتعريفها في كتب الحديث والتاريخ، وهي ثنية أخرى، غير تلك الواردة في حديث الهجرة الذي أخرجه الحاكم.
وبخصوص اعتراض السمهودي على القاضي عياض، فإن ما ذهب إليه السمهودي من رد كلام القاضي عياض لعله في محله، لأن القاضي عياضاً في (مشارقه) إنما شرح غوامض الصحيحين والموطأ فقط، وهذه الكتب لم يرد فيها رواية حديث الهجرة باللفظ الذي أخرجه الحاكم. هذه واحدة.
وأما رواية الحاكم، فهي صريحة في وجود ثنية أخرى بالاسم نفسه في طريق الهجرة، موقعها بين قديد والحفياء، وهذه مساحة كبيرة وواسعة، يصعب تحديد وضبط تلك الثنية باعتبارها، والغريب أن جغرافيي الحجاز لم يذكروها أو يشيروا إليها، بحسب ما وقفت عليه. فهل في رواية الحاكم اضطراب في المتن؟. وأما السند فقد صححه الحاكم على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي في التلخيص. وعلى فرض ضعف السند، فإن محل الشاهد منها لا يتعلق بالأحكام والعقائد، وإنما بأمر تاريخي جغرافي لا دخل للإسناد فيه، والسند بعمومه جيد. هذا، والله أعلم.
الهوامش:
1- ابن الأثير، المبارك بن محمد الجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى ومحمود محمد الطناحي، جـ1 (بيروت: المكتبة العلمية، 1399هـ - 1979م)، 650؛ النووي، يحيى بن شرف، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ط2، جـ9 (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1392هـ/1972م)، 159؛ ابن حجر العسقلاني، أحمد بن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري، جـ5 (بيروت، دار المعرفة، 1379هـ/ 1959م)، 335.
2- الشيباني، أحمد حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل، جـ31 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1413هـ/1993م)، 212.
(توضيح): وقع في بعض طبعات "سيرة ابن هشام" تحريف لكلمة (الحمض) إلى (الحمش)، والصواب بالضاد المعجمة، وهو موضع معروف شمال ثنية المرار. ينظر: البلادي، عاتق بن غيث، معجم المعالم الجغرافية في السنة النبوية (مكة المكرمة: دار مكة، 1402هـ/1982م)، 106.
3- مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري ، صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، جـ8 (بيروت: دار إحياء الكتب العربية، 1374هـ/1956م)، 123.
4- ابن الأثير، جـ1، 650.
5- البلادي، عاتق بن غيث، معجم معالم الحجاز، جـ8 (مكة المكرمة: دار مكة، 1399هـ/1979م)،80؛ المؤلف السابق، معجم المعالم الجغرافية في السنة النبوية (مكة المكرمة: دار مكة، 1402هـ/1982م)، 106؛ شراب، محمد محمد حسن، المعالم الأثيرة في السنة والسيرة (دمشق: دار القلم، د.ت)، 248.
6- ياقوت الحموي، ياقوت بن عبد الله، معجم البلدان، جـ5 (بيروت: دار الفكر، د.ت)، 92.
7- ابن الأثير، جـ1، 650.
8- ابن حجر العسقلاني، جـ5، 335؛ السمهودي، علي بن عبدالله، وفاء الوفا بأخبَار دار المصطفى، تحقيق: قاسم السامرائي، جـ4 (لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 1422هـ/2001م)، 194.
9- الحاكم، محمد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحين، جـ3 (بيروت: دار الكتب العلمية، 1411هـ/ 1990م)، 9.
10- اليحصبي، القاضي عياض، مشارق الأنوار على صحاح الآثار، جـ1 (تونس، المكتبة العتيقة، وبيروت، دار التراث، د.ت)، 136.
11- السمهودي، جـ4، 194.
محمد باذيب
3 / 4 / 2102م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق