إزالة الأوهام عن عبارة الإمام
(واعتراضه على قاعدة: ترْك السنة إذا أصبحت شعاراً لأهل البدعة)
بقلم/ محمد باذيب
16 فبراير، 2013
الحمدلله حق حمده.
احتدم النقاش مع أحد الكتاب على صفحات الفيس بوك، حول عبارة في (شرح مسلم) للإمام النووي رحمه الله، اقتطعها بعضُهم من سياق كلام في الشرح المذكور، على حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا نصُّ عبارته، مع امتعاضي من أسلوبها الوقح في خطاب علمٍ من الأعلام الأئمة الأكابر، أياً كان الخلاف معه، فهذا مما ينبغي الترفُّع عنه:
(ومن الضلال قول النووي ( الصلاة على غير النبي قد صارت شعاراً لأهل البدع وقد نُهينا عن شعارهم)! من نهاك يا نووي؟! رسول الله أم بعض سلفك؟).
فقرر ذلك الكاتب هنا أمرين:
الأول: أن النوويَّ لا يجوز الصلاة على الآل لأنها أصبحت شعار الرافضة. محتجاً بقوله: «الصلاة على غير النبي».
الثاني: أن النووي يقرر أن كل ما أصبح شعاراً لطائفة مبتدعة وجب تركه ولو كان سنة.
وقد خالفته في الأمرين كليهما، وفيما يلي شرحٌ وتفصيلٌ لجوهَر المسألة المبحوثة، وبالله التوفيق:
المسألة الأولى
مسألة الصلاة على غير النبي استقلالاً
ليعلم القارئ الكريم أن هذه عبارة المشنّع بها على الإمام محيي الدين رحمه الله، المتقدم ذكرها، وهي « الصلاة على غير النبي قد صارت شعاراً لأهل البدع وقد نُهينا عن شعارهم». وردت ضمن سياق طويل مفصل في الموضوع، في «شرح مسلم»، وهو كلام محرر، قرر فيه أن الصلاة على الآل استقلالاً فيها خلاف، وأورد الأقوال فيها. أثناء شرح حديث: «كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صل عليهم»، فأتاه أبي أبو أَوْفى بصدقته، فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى».
قال رحمه الله:
«وأما قول الساعي [أي الساعي في أخذ الزكاة]: (اللهم صل على فلان):
[1] فكرهه جمهور أصحابنا، وهو مذهب ابن عباس، ومالك، وابن عيينة، وجماعة من السلف.
[2] وقال جماعة من العلماء: يجوز ذلك بلا كراهة لهذا الحديث.
قال أصحابنا لا يصلى على غير الأنبياء إلا تبعاً. لأن الصلاة في لسان السلف مخصوصة بالأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم كما أن قولنا عز و جل مخصوص بالله سبحانه وتعالى فكما لا يقال: (محمد عز و جل)، وان كان عزيزا جليلا. لا يقال: (أبو بكر صلى الله عليه وسلم)، وان صح المعنى.
واختلف أصحابنا في النهي عن ذلك: هل هو نهى تنزيه أم محرم أو مجرد أدب؟
على ثلاثة أوجه: الأصح الأشهر: أنه مكروهٌ كراهةَ تنزيهٍ، لأنه شعاراً لأهل البدع، وقد نُهينا عن شعارهم، والمكروه هو ما ورد فيه نهيٌ مقصود.
واتفقوا على أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم في ذلك فيقال: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته وأتباعه)، لأن السلف لم يمنعوا منه، وقد أمرنا به في التشهد وغيره. قال الشيخ أبو محمد الجوينى من أئمة أصحابنا: (السلام في معنى الصلاة ولا يفرد به غير الانبياء لأن الله تعالى قرن بينهما ولا يفرد به غائب). ولا يقال: (قال فلان عليه السلام)، وأما المخاطَبة به لحيٍّ أو ميتٍ فسنةٌ. فيقال: السلام عليكم، أو عليكَ، أو سلام عليكَ، أو عليكم، والله أعلم».
التعليق:
فبتأمل السياق .. نجد أن الإمام رحمه الله، لم يأتِ بقاعدة (النهي عن مشابهة أهل البدع) في سياق اختياره هو رحمه الله، بل في سياق تقرير أحكام نقلها عمن سبق.
كما أن السياق إنما هو خاص بالكلام على حكم (الصلاة على غير النبي استقلالا)، والسياق واضح لا شبهة فيه. وليس فيه النهي عن الصلاة على الآل بعمومها، على أن الكلام في المسألة غير مكتمل، لأن من عادة الشراح أن يوزعوا كلامهم وشرحهم على الأحاديث كل بحسب ما ورد فيه. فالكلام هنا على الصلاة على غير الأنبياء (وليس على خصوص الآل) ممن ذلك الغير في حكم (آل أبي أوفى) الذين ورد فيهم النص المشروح.
* وأما الآل بخصوصهم، فقد فصّل الإمام رحمه الله الكلام فيما يخص الصلاة عليهم تبعاً أو استقلالا عند شرحه لحديث: «وبارك على محمد وعلى آل محمد».
قال رحمه الله:
«.. احتجّ به من أجاز الصلاة على غير الأنبياءِ، وهذا مما اختلف العلماء فيه:
[1] فقال مالك والشافعي، رحمهما الله تعالى، والأكثرون: لا يصلى على غير الأنبياء استقلالاً، فلا يقال: (اللهم صل على أبي بكر)، أو (عمر)، أو (علي)، أو غيرهم، ولكن يصلى عليهم تبعاً، فيقال: (اللهم صل على محمد وآل محمد وأصحابه وأزواجه وذريته)، كما جاءت به الأحاديث.
[2] وقال أحمد وجماعة: يصلَّى على كل واحدٍ من المؤمنين مستقلًّا، واحتجوا بأحاديثِ الباب، وبقوله صلى الله عليه و سلم: «اللهم صل على آل أبي أوفى».
هذا كلام العقل والإنصاف، وتفصيل ذكر مذاهب أهل العلم، فأين ما ادعاه هذا الكاتب الأثيم من أن الإمام النووي رحمه الله يقولُ ببدعية إفراد الآل بالصلاة استقلالاً! وهو إنما يقرّر كلامَ من سبقه.
ولو فرضنا أنه قرر ما سبق من القاعدة التي وردت في سياق كلامه، فإنه لم يأت بدعاً من القول أو زوراً، بل قلد: مالكاً والشافعي، والأكثرين.
المسألة الثانية
قاعدة: ترك السنة إذا اشتهر بها أهل البدعة
وهذه القاعدة مما أراد كاتب العبارة المشار إليه إلزام الإمام بها، أي أنها قاعدة مقررة عنده، وهذا غير صحيح. فعبارته التي قدمت نقلها ذكر فيها أن الأصح الأشهر من أقوال ثلاثة هو عدم الجواز استقلالاً، وأن الصلاة استقلالاً مكروهة كراهة تنزيهيةً، وهذه مرتبة أدنى من مرتبة المكروه تحريماً، كما يعلم من أصول مذهب إمامنا الشافعي رحمه الله.
وتعليل الإمام النووي رحمه الله لذلك القول الأصح الأشهر، بعلة: مشابهو أهل البدعة، أتى به من باب التعضيد والتقوية للقول، لا على سبيل القطع بتلك القاعدة، وقبولها مطلقاً، وتنزيل الأحكام عليها بدون قيود، فليس هذا من صنيع الإمام محيي الدين رضي الله عنه ورحمه، وهو الفقيه المبرز، والذي على كتبه التعويل في تحرير المذهب.
ولأن هذه السطور تكتب على جناح السرعة، وليس المقصود منها الإحاطة بكل ما ورد في عبارات الإمام، مما يناقض الفهم الذي ذهب إليه الكاتب، من تقريرها كقاعدة.
فقد أحببت أن أذكر نصاً ورد عند الإمام النووي رحمه الله، ينقض ذلك الفهم، ويظهر مدى فقاهة الإمام وبراعته في استخدام النصوص وإعمال المتعارض منها الذي خير من إهمال شيء منها. وهنا أعيد القول: بأن تقرير أي عالم على قولٍ ورد في سياق كلامه، لا يقتضي أنه قائل به، أو مقعد له، وأن إلزامه بما لا يلزمه أمر مناف للإنصاف، ولا سبيل إلا بسبر كافة مؤلفاته وأقواله، حتى يتبين له الأمر جليا واضحاً، ثم يصدر الحكم.
جاء في كتاب (اللباس) في «المجموع شرح المهذب»، عند تعداد الإمام النووي رحمه الله للمسائل المستخرجة على كلام المؤلف أبي إسحاق رحمه الله:
«العاشرة: يجوز للرجل لبسُ خاتم الفضة في خنصر يمينه، وان شاء في خنصر يساره، كلاهما صحَّ فعلُه عن النبي صلي الله عليه وسلم.
لكن الصحيح المشهور: انه في اليمين أفضلُ، لأنه زينةٌ، واليمين أشرَفُ. وقال صاحب «الإبانة»: «في اليسار أفضل، لأن اليمين صارَ شِعار الروافض، فربما نُسِبَ إليهم»، هذا كلامُه، وتابعه عليه صاحبَا «التتمة»، و«البيان».
والصحيح: الأول، وليس هو في مُعظَم البلدان شعاراً لهم. ولو كان شعاراً لما تُركَت اليمينُ!. وكيف تتركُ السُّنَنُ لكون طائفة مبتدعةٍ تفعَلُها!!!. وفى «سنن أبي داود» بإسنادٍ صحيح: أن ابن عمر كانَ يتختم في يساره. وبإسنادٍ حسن: أن ابن عباس تختم في يمينه». [المجموع شرح المهذب (4/ 462)]
فماذا سيقول منتقدو الإمام النووي، والملزموه ما لا يلزمه!؟؟.
هذا نصٌ صريحٌ واضحٌ لاشيةَ فيه، يوضحُ فيه الإمام انخرامَ تلك القاعدة التي قررها ثلاثة من عظماء الشافعية المتقدمين، وهم:
[1] صاحب الإبانة، وهو الإمام الفوراني، عبدالرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران، أبوالقاسم (ت 461هـ)، مقدم الشافعية بمرو. رحمه الله.
[2] صاحب التتمة، وهو الإمام المتولي، عبدالرحمن بن مأمون النيسابوري، أبو سعد، (ت 478هـ)، شيخ المدرسة النظامية، ببغداد، رحمه الله.
[3] صاحب البيان، وهو الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني اليماني، (ت 558هـ).
أليس هذا دليلا على براءة ساحة الإمام من القول بالعمل بتلك القاعدة مطلقا، وأنه عندما ينقل كلام من قبله فإنما هو ناقل، لا قائل.
هذا، ولسيدنا الإمام النووي رحمه الله اصطلاحات كثيرة في كل كتبه، فعلى من رام الاستدلال بها والاستشهاد أن يعرفها، ويتأملها، ولا يهجم على الأقوال من دون تمحيص، ونسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق للهداية، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم. والحمدلله رب العالمين.
يقول العاجز محمد باذيب، سامحه الله:
أتممت تحرير هذه المقالة، مع أذان فجر يوم الأحد
السابع من شهر ربيع الآخر سنة 1434هـ
الموافق 17 من فبراير لعام 2013م.
اجزت واوضحت... شيخنا الفاضل.. .جزاك الله خير الجزاء.. ونفع الله بعلمك وجعل ذلك في ميزان حسناتك
ردحذفشكرا وجزاكم الله خيرا
ردحذف