الأربعاء، 27 مارس 2019

معضلة كتب المناقب والكرامات في مجتمعنا الحضرمي


معضلة كتب المناقب والكرامات في مجتمعنا الحضرمي

بقلم/ محمد باذيب
21 مارس، 2013


تعد قضية كتب المناقب والكرامات من أكثر القضايا التي تشغل ذهن المثقف المسلم، في كل اصفاع المعمورة، تستهلك فيها أوقات كثيرة، بين الشباب والكبار والصغار، شرعيين ومثقفين .. وكافة الطبقات والشرائح.

بين مدافع عن حقوق الأولياء ومقاماتهم، وبين منكر لكل الخرافات (بحسب كلامه) التي في تلك الكتب ..

بين من يراها مصدراً تاريخياً مهما ، وآخر يراها تشكل عصب الانتكاسة في أمتنا.

بين من يحترمها كثيراً ويعلو بها الى مرتبة عدم الانكار، وبين من يسفه أحلام كاتبيها ..

وهكذا .. سجال لا ينتهي .. ولن ينتهي.

وقد كتبت قريباً في موضوع لا يزال النقاش حوله دائراً: أن أصل الكرامة عند المسلمين جميعاً ثابت بنص الكتاب والسنة، ولكن: أفراد الكرامات التي تنقل عن أفراد الناس، من شاء صدقها ومن شاء أنكرها. ولا يلزم من انكار كرامة ما، ان نشنع على المنكر، مادام أنه يثبت اصل الكرامة، فليس من واجبه أن يصدق عين الكرامة التي سمعها، فقد يكون قام مانع لديه من تصديقها.

لكن الذي لا ينبغي: هو كثرة التشنيع على تلك الأقاصيص والأخبار والكرامات التي في الكتب، لأن أكثرها أخبار مهجورة، ونبشها والنكير عليها مما يزيدها انتشاراً .. فتكون النتيجة عكسية.

ثم أمر آخر: ينبغي مراعاته، وهو مشاعر الناس. فكثير من الأخبار تنسب لأناس لهم ذرية وأبناء وعشيرة، فاحتراماً لمشاعر هؤلاء على إخوانهم المسلمين، ولو كانوا محتسبين في الإنكار، أن يراعوا هذه الأخوة الإسلامية .. لأن المسألة في نهاية المطاف مجرد أخبار وقصص، فلماذا المبالغة في انكارها، وهي لا ترقى ان تكون في مرتبة الأحكام الشرعية، أو العقائد الدينية!!


المدونات المناقبية والحفاظ على الهوية:

لننظر إلى الموضوع نظرة أخرى، اجتماعية وديموغرافية، حيث أسهمت تلك المدونات في الحفاظ على أمر مهم جدا، ما كان ليستمر إلى أيامنا هذه لولا وجودها كعامل مساعدٍ فاعلٍ في الحفاظ على الهوية.
نعم، فقد كان ولا يزال لكتب المناقب حضور في الروحات والمجالس التي يقيمها الشيوخ المربون في أماكن شتى من موطن الحضارمة ومهاجرهم. لقد مثلت هذه القراءة المناقبية ركيزة مهمة في ربط الأجيال بعضها ببعض، بغض النظر عن سلبيات النظرة الكراماتية كما يراها البعض، فهي في وجهة نظري مهمة جدا، للحفاظ على الهوية.
لعل أبرز من استفاد وحافظ على هويته الأصلية من قومنا الحضارمة، هم السادة الأشراف بنو علوي، في المقدمة بكافة بيوتاتهم وأسرهم المتنوعة، يتلوهم المشايخ كآل بافضل وآل الخطيب وآل باعباد [أكتفي بهؤلاء كنماذج تاريخية حية]، ممن لهم تآليف قديمة تعود إلى القرن الثامن الهجري وما بعده. هذه الأسر والبيوت الكريمة، حافظت إلى جانب تراثها التاريخي المناقبي الزاخر على أمور أكثر أهمية، تشكل العمود الفقري لمآثرها وأمجادها، وهو الاستمرارية العلمية في أفرادها، وحفظ المشجرات النسبية وتحريرها، ووفرة الإنتاج العلمي التأليفي إلى حد مّا مقارنة بغيرها ممن لم يحافظوا على هذا التسلسل.
لكننا نجد أسراً أخرى ذات تاريخ مناقبي هي الأخرى، لا يقل جودة وفخامة عمن سبق ذكرهم، كآل باقشير، وآل العمودي، وآل باجمال [أكتفي بهم كأمثلة تاريخية حية]، لم تحافظ كل المحافظة على ما حافظ عليه من ذكرناهم قبل، نعم، تاريخهم وتراثهم العلمي القديم محوظ، وكلنه لم يبق متصلاً ومتجدداً كما هو عليه الحال عند الأوائل. فآل باقشير قرضوا تقريباً، ولم يبق لهم أي ذكر في الوادي، وزرت بلدهم العجز، قرب قسم، فلم اجد سوى بيت وحيدٍ وذكر لي أفراد منهم في المهجر، لا يشكلون بمجموعهم ما يمكن نسميه (عشيرة)، أما آل العمودي فكثرة كاثرة، ولهم حضورهم القوي في مختلف بلدان العالم، اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً، ولكن بصورة مختلفة أو مغايرة لما كان عليه أوائلهم من زعامة روحية ودينية، نعم بقي لهم منصبٌ يقوم بدور اجتماعي في منطقته، ولكن: بالنظر إلى الأدوار العظيمة التاريخية التي للأوائل، نجده دوراً متواضعاً جداً. أما آل باجمال فقد ازدهر انتاجهم وعطاؤهم العلمي في القرنين العاشر والحادي عشر، وبقي ضعيفاً إلى نهاية القرن الثالث عشر الهجري، ثم تلاشى، ولهم مشجرات ولكن حضورهم الاجتماعي يكاد أن لا يذكر.
جميع من ذكرت لهم تاريخ مناقبي، ولا أدري لماذا يصر البعض على التشنيع فقط على السادة الأشراف؟!. إنه أمر مثير للتساؤل بشكل ملح. ولعلنا لا نبتعد كثيراً إذا أرجعنا تلك الأسباب المتوقعة إلى سبب رئيس: وهو الاستمرارية التاريخية المتسلسلة منذ القديم وحتى اليوم هذا، لهذه الأسر الكريمة الأصول، مما أنتج تضايقاً لدى البعض من بقاء الريادة والزعامة الروحية للأشراف، إن من يقوم بمعادات هذه الأسرة الكريمة المحافظة، ينادي على عقله بالانتقاص، وعلى دينه بالنقصان، ولماذا المعاداة؟ التي لا يمكن تفسيرها إلا بدوافع الحسد الممقوت!.
حافظ أوائل هذا البيت الكريم على سير عظمائه، ودونوها بشكل من الأشكال، وورثوها للأجيال التالية، وحافظوا على مشجراتهم النسبية، وعلى موروثهم العلمي .. وتسلسل فيهم جيلا بعد جيل، وقرناً بعد قرن. إنهم يستحقون الاحترام والتقدير كله، لأنهم نموذج يحتذى به حقاً، عرف قيمة التوثيق حق المعرفة، وقام بحق التوريث العلمي حق القيام. بغض النظر عن جزئيات في تلك المدونات المناقبية التي يثير البعض النفوس ويشحنها ضدها.
* * *
وقد دار بيني وبين أحد الأحباب الكرام من أهلنا في حضرموت، حوار أظهر فيه أسفه لكثر كتب المناقب في تراثنا الحضرمي، وازدياد انكار بعض الناس في هذه الأيام عليها، وأنها تسبب لهم حرجاً أمام المجتمع ..
فقلت له:
لا ادري لماذا انتم مستاءون جدا من الكرامات. انظر إلى كتب المغاربة .. مليئة بالكرامات. وكذلك كتب الهنود وكتب الشوام، والأتراك، والأكراد، وكل الأمم المسلمة .. عندي وجهة نظر في هذا الأمر، مما يخص تراثنا الحضرمي: وهو أن المغاربة (مثلا) ومثلهم الهنود، ألفوا في كل العلوم، من حديث وفقه وتفسير وغير ذلك. بينما اقتصر علماء حضرموت على التأليف في الفقه، وفي التصوف، والكتب المناقبية وبعض المؤلفات التاريخية، وقليل في علم النحو.
لدينا، نحن الحضارمة، تراث فقهي، كبير، وقد عددت في بحثي عن فقهاء حضرموت (875 كتاباً فقهياً)، منها: 60% لا تزال مخطوطة!! .. ولأسباب اجتماعية وفكرية متضادة، ظهرت الكتب المناقبية وطغت على الساحة عندنا، لبعض الأسباب التي ذكرتها أول مقالي. وقد يكون من نافلة الجواب، القول بأن هناك تعادلاً وترجيحاً عند غير الحضارمة بين الإسهام في التآليف المناقبية التي يمكن أن تدرج في عداد الكماليات والترف العلمي، وبين المشاركة القوية في تدوين وشرح ونقل العلوم الأصلية، من تفسير وعقائد وحديث وغيرها. بينما قلت المؤلفات بشكل كبير فيها عند الحضارمة، واكتفوا بقراءة ما وصلهم من مؤلفات الأعلام الكبار، في جميع الفنون. سوى ما ذكرنا من الفقه والتصوف، وشيء من النحو.
أرجو أن تضيف هذه الخواطر، وهذه السطور، شيئاً ذا بال إلى هذه القضية الحساسة، وأن يمعن القراء النظر فيها، حتى تنجلي عن القلوب والأبصار تلك النظرات السوداوية التي تنتاب البعض، فيتعامل مع هذه القضايا بحساسية زائدة، ويدرجها في أبواب الولاء والبراء، والأمر دون ذلك بكثير.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق