ملاحظات توجيهية
على مقالة في وصف البيوت الشبامية
بقلم / محمد باذيب
عليكره، الهند
8 فبراير، 2013
تمهيد:
لم تزل شبام حية وحاضرة في ذاكرة أهل حضرموت، تلك المدينة التي تمثل أس العمود الفقري الاقتصادي والتاريخي في وادي حضرموت. التي لم تزل منذ عهود ما قبل الإسلام، وحتى عصر الإسلام إلى منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وهي ذات حضور تاريخي لا يجهل، ولا ينكر. إلى أن دارت عليها الدائرة، في العهد الشيوعي المظلم المنتن، فحاق بها وبأهلها ومن حولها سوء العذاب، ولم يبق من أهلها وبيوتاتها القديمة، ذات الثقل الاقتصادي في عموم حضرموت بل واليمن، إلا آثارهم وبيوتهم، وتفرقوا في واسع أرض الله، والأمر لله من قبل ومن بعد، عامل الله من فعل بالبلد وأهلها تلك الأفاعيل بعدله، وأخذهم في الدارين أخذ عزيز مقتدر.
وبين الفينة والأخرى، تخرج وتصدر كتابات لبعض المعتنين، والمهتمين بالموروث التاريخي والعمراني في وادي حضرموت، منها ما هو المحرر، ومنها ما يأتي بغرض استثارة الهمم للكتابة، واستحثاث الذاكرة المثخنة بالجراح لتبرز مكنونها، وكلهم على قصدٍ حسنٍ، إن شاء الله.
وبالمناسبة، فإننا نضرع إلى المولى الكريم أن يكرم الشيخ الأستاذ، مقام الوالد الكريم، عمر بن أبي بكر باذيب، المجاور في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإتمام تاريخه الكبير والشامل عن مدينة شبام، والذي مضى عليه أكثر من ثلاثة عقودٍ من الزمان وهو يلملم أشتاته، ويجمع متفرقه، ويبذل قصارى جهده في سبيل إخراجه بصورة مشرفة.
وقد نشر خلال هذه المدة الطويلة، مقالاتٍ عديدةً، عن البيوت العلمية الشبامية والحضرمية، وعن علاقة علماء حضرموت بالحجاز وساكنيه، وغير ذلك من المقالات، وقد نشرت موخراً في كتاب فاخر أطلق عليه اسم «القلادة».
كما كان لكاتب السطور بعض مشاركات في التعريف بأكابر علماء الدمنة البيحمية، والعرصات الشبامية، ونشر بعض مؤلفاتهم، وتحقيق أسانيدهم وأثباتهم، منها ما صدر، كمؤلفات الشيخ عمر مشغان شراحيل (ت 1293هـ)، ورسالة الشيخ عوض سديس عقبة (ت 1299هـ) «تقريب الشاسع في ترتيب وظيفة الجامع» وهو في تراتيب جامع شبام، وبعض مؤلفات الشيخ سالم باصهي (ت 1336هـ)، ومجموع إمام الدعوة الحبيب أحمد بن عمر بن سميط (ت 1257هـ)، ومنها ما ينتظر، نسأل الله تمام المقاصد في خير وعافية.
كما توجد مشاركات وإسهامات متفرقة، هي قيد المتابعة والاهتمام، ونأمل أن تتظافر الجهود، وأن يقدم كل محب ومهتم بهذه الدمنة ما لديه، فالتاريخ نقل، والبناء لا يكتمل إلا بتوافر اللبنات، وفي سواعد إخواننا من شباب البلاد خير كثير، وقد رأينا في الآونة الأخيرة منهم ما يقر العين، من توثيق مصور ومكتوب لبعض الأمور والعادات والأخبار.
* * *
هذا؛ وإن سبب وضعي لهذه السطور، وقوفي على مقالة لطيفة، لأحد الإخوة الفضلاء من أهل سيون، اسمه سُلَيمان، من السادة آل الحامد آل الشيخ أبي بكر بن سالم، تحدث فيها عما سمعه وبلغه من بعض العادات في بلدنا حرسها الله، ورد إليها رُوحَها وراحتها، وأنسها وحكمتها، وأقر عينها برؤية فلذات أكبادها، ورزقهم التحنن عليها بعد هذا الهجران المرير، والبعد القسري القاسي .. آمين. فأقدم له شكري على ما كتب ودوّن، فشبام هي «مدينة الجميع»، كما وصفها الهمداني في «صفة جزيرة العرب»، وليست هي أو تاريخها حكراً على أحد، ولم تزل منذ القديم فاتحة ذراعيها لكل من أحبها وخطب ودَّها.
أصاب الأخ المذكور في بعض نواحي مقالته، وجانبه الصواب في بعضٍ، ولما أنه قد طلب ممن يقف على مقاله أن يصوب ويصحح ما كتبه، كانت هذه السطور استجابة لتلك الرغبة منه، وتوضيحاً لأمور تاريخية واجتماعية مهمة، ورجاءً لحصول الفائدة. وأنبه على أن مقصودي هو تصويب الأفكار الرئيسة في مقاله، لا تعقبه في أسلوبه الكتابي أو تعبيره، فهذا ليس من غرضي وقصدي هنا، فليكن هذا على بال القارئ.
الملاحظة الأولى
قال: «... لسهولة نقل الأغراض والحاجيات اليومية لساكني تلك الطوابق العالية. ففي كل بيتٍ منهَا .. تتوسّطه فتحةٌ مربعةٌ، قد يصل كل جانب إلى مترين، أو مترين ونصف .. تسمى مَنْوَر».
التعليق:
الكاتب هنا يتحدث عما يعرف عند أهالي شبام بالشُّمْسِة، بضم الشين المعجمة وسكون الميم وكسر السين المهملة، وهي فراغ يكون في وسط البيت كما ذكر الكاتب. والشُّمْسَة مأخوذة من الشمس، قال الراغب الأصفهاني: «ويقال للقرص والضوء المنتشر عنه الشمسة». ولأن الشمس عادة تتوسط البيوت الشبامية من خلالها وقت الزوال واستقلال الشمس في كبد السماء، عند قيام قائم الظهيرة، فيدخل ضوءها ذلك الموضع.
ولا نعرف أحداً في شبام يسمي الشُّمْسِة بالمنور، إلا نادراً، وهي [أي كلمة المنور] إنما دخلت على اللهجة الشبامية حديثاً، وهي شائعة في بلاد اليمن وعدن والحجاز وغيرها، ويراد منها غالباً: الفرجة الضيقة بين البيوت، أو المساحة الخالية وسط البيوت والعمارات، وتكون فيها عادة أنابيب المياه والصرف، وقل من يدخلها إلا لإصلاح أو عارض. بينما استخدام الشُّمْسِة الشبامية، التي سماها الكاتب (المنور)، في غير تلك الأمور التي قدمنا ذكرها.
فالشُّمْسِة، تستخدم لنداء أهل البيت، أو الحديث العابر مع شخص يريد حاجةً خفيفة، ولا يريد أن يصعد سلالم الطوابق الخمسة أو الستة، فترمى له حاجته أو تدلى، أو يتم تبادل الحديث الذي لا يراد لمن في الشارع، أو من في الجوار، أن يسمعه، ونحو ذلك.
ونعرِّجُ على (المنور)، فهو كما قلت من قبل: الفراغ أو الفرجة المتوسطة بين بيتين، وأهل شبام يسمونها (الطَّبَنْ)، بطاء مهملة وباء موحدة مفتوحتين فنون، وهي كلمة فصيحة، لها أساس عربي، وتدل الطاء والباء والنون على الثبات، كم قاله ابن فارس في «مقاييس اللغة»، قال: «يقال: اطبأنَّ، إذا ثبتَ وسكَن، مثل اطمأنَّ، ويقولون: طَبَنتُ النار: دفنتُها لئلا تَطفَأ، وذلك الموضعُ الطَّابون. ويقال: طابِنْ هذه الحَفيرةَ: طأطِئْها. ويقولون: إنَّ الخير في بني فلانٍ كثابت الطَّبْن، أي هو تليدٌ قديم». ومثله في «القاموس المحيط»، و«لسان العرب»، وغيرها. وثمة معنى آخر أورده ابن سيده في «المخصّص» قال: «وقال بعضهم: تَبِنَ بَطْنُه إذا انتَفَخ، طبِنَ يَطْبَن طَبَنَاً، وهو طَبِنٌ». وفي «لسان العرب»: «والطِّبْنُ: البيتُ. والطِّبْنُ: ما جاءت به الريح من الحطب والقَمْشِ، فإِذا بني منه بيت فلا قوَّة له».
مجموعة بيوت متلاصقة في شبام لايظهر أثر للطبن فيها |
وكثير من هذه المعاني متحققة في (الطَّبَن) الشبامي، وحيث أن البيوت من طين، فإن الفراغَ والانفراج فيما بينهَا لا يبدأ في الظهور إلا من الأدوار العلوية، أما الطوابق المتوسطة والسلفية فعادة ما تكون متلاصقة كما هو مشاهد، وهذا البناء فيه معنى الثبات، كما تقدم عن ابن فارس. كما في شيء من معنى الردم، لأن الفراغ إذا شبهناه بالحفرة، فهي في حكم الحفرة المطمُورة، لأن ذلك الفراغ لا يكون منفِّذًا غالباً، إلا في البيوت غير المتلاصقة، وقليلة هي في شبام، ولا تكون إلا في البيوت الكائنة في أركان الشوارع والطرقات، أما السكك فبيوتها متلاصقة كما هو معلوم.
الملاحظة الثانية
قال: «... تبدأ من الطابق الأول وتنتهي أعلى المبنى؛ شيء أشبه بالبئر، وفي كل طابق هناك فتحات أو طاقة تطل عليها. ومن الأسفل لها طريق من الطابق الأول للدخول إلى داخلها ومن السطح».
التعليق:
هو هنا يصف (الشمسة) الشبامية، التي سبق تعريفها، وهي موضع نافذ للضوء والهواء، في كل طبقات البيت، فأنى أن يشبه البئر الصماء!!. وإنما قصده أن عمق الشمسة وبعد منفذها العلوي يشبه عمق البئر.
والدخول إلى الشمسة إنما يكون في سفل البيت الشبامي، وليس من الطابق الأول، إلا إذا سمينا تجوزاً سفل البيت طابقاً. وأهل شبام يسمون سُفْلَ البيت: الضَّيْقَة، بضاد معجمة مفتوحة فياء مثناة تحتية ساكنة فقاف مفتوحة فهاء، وهو اسم لمدخل البيت الرئيسي، والفرعي، وعادة ما تكون في بيوت شبام ضيقتان، كبيرة وصغيرة، الصغيرة للدخول والخروج، والكبيرة تتخذ محلا للبيع والشراء وتخزين البضائع وما إلى ذلك.
وهناك منافع كثيرة في أسفل بيوت شبام، وقد عرج عليها الكاتب في مقاله في موضع متأخر عن هذا الموضع، ولكن الأفضل أن نورد ما كتبه هنا، لمناسبته.
الملاحظة الثالثة
قال: «وفي أسفل البيوت هناك: الخنُون، كما يسمّيها أهل شبام، وهي أمكنةٌ لتربية الأغنام، ومفردُه خَن».
التعليق:
نعم، يوجد في أسفل بعض بيوت أهل شبام (الخنون)، ولكنها تتخذ لتخزين البضائع والحبوب والأقوات، وليست مرابض للغنم كما ذكر الكاتب. وهذه الخنون: عادة ما تكون عميقةً عند أساسات البيوت الكبيرة، ولا يكون فيها أي منفذ للضوء، وتوضع في تلك الخنون بعض الأعمدة الكبيرة التي قد يحتاج إليها، وتسمى (المعاتِن)، جمع مِعْتِنْ.
وبعض البيوت تكون الخنون فيها غير عميقة، فيخزن فيها التجار شيئاً من بضائعهم سيما الحبوب، لكون الخنون حصينة، وبعيدة عن الأمطار والبلل، فهي مخازن مناسبة.
والمعْتِنْ، بميم مكسورة فعين ساكنة فتاء مثناة فوقية مكسورة فنون: هو الدعامة الكبيرة المتخذة من جذوع الأشجار الكبيرة، تجلب من نواحي الهند غالباً ويعرف خشبها بالحِمْر، بكسر فسكون، ولعله خشب الزَّان، وتستخدم المعَاتِن في رفد البيوت القديمة من الخارج، وتبنى فوقها بطانة تعمل على إسناد البيت. ويكون مقاسها: 6 إنش في مثلها، أو تدور في ذلك الفلك.
وقد تتخذ من جذوع أشجار العُلُوب (السِّدْر)، ولكن أهل الخبرة يحذرون من استعمال ما قطع منها أيام الشتاء، ولا يستعملونه إلا بعد أن يجف مدة طويلة، تزيد على سنة، لأن في اتخاذه مِعْتِناً عقب قطعه مباشرة ضرر على البناء وعلى البطانة المتخذة فوقه، لأن ينشف مع مرور الوقت، وبنشافه تحدث تصدعات في البطانة، ينتج عنها فجوات تسمح لمياه الأمطار بالتسلل إلى أصل الجدار ومن باب أولي البطانة الحديثة الوَضْع، فكأنهم لم يعملوا شيئاً! تعلمتُ هذا من والدي حفظه الله وأنا صغير، وكان أبي أطال الله عمره يصطحبني معه، وأنا دون العاشرة، إلى بعض الأماكن التي يباع فيها خشب المعاتن القوي، وكنت أسمع الكلام الذي يدور بينه وبين الدلالين والباعة فوعيته، كان ذلك حدود سنة 1405هـ/ 1985م.
وهي من الفصيح المحرَّف، وأصلها عتن يعتن، مستعملٌ، كما جرى عليه الأزهري في «تهذيب اللغة» مخالفاً الخليل الفراهيدي في «كتاب العين» الذي ذهب إلى أن عتن مهمل غير مستخدم. قال الأزهري: «أخبرني المنذريّ، عن الحَرّانيّ، عن ابن السكّيت، قال: يقال: عَتَله إلى السِجْن، وعَتَنه يَعْتِنه ويَعْتُنه عَتْناً، إذا دفعَه دَفْعاً عَنيفاً. أبو العبّاس عن ابن الأعرابيّ قال: العُتُن: الأشِدَّاء، جمع عَتُونٍ، وعاتِنٍ إذا تشدّد على غريمِه وآذاه». فجذرها يدل على الشدة والصلابة، وهكذا تأتي الكلمات العربية السليقية، كما يعلم من أصوات الكلمات وجرسها، حسبما قرره علماء اللسانيات.
أما مرابضُ الغنم، كما سماها الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم، وأجاز الصلاة فيها لا في أعطان الإبل، فنحن نسميها (السُّطْوح)، جمع سِطْح، وعادة ما تكون في الطابق الأول، الذي يعلو أسافل البيت، وبعض أصحاب البيوت الصغيرة يجعلون أغنامهم في الطبقة السفلى. ولا يشترط أن تكون كل سطوح البيوت مرابض للغنم، بل تتخذ لتخزين حطب الوقود اليومي، أو حفظ راشن أهل البيت وأقواتهم. وفي طبقة السطح توجد منافع متعددة، لسنا بصدد تفصيل الكلام عنها.
عَودٌ؛
و(الـخُنُون): بخاء معجمة مضمومة فنون فواو ساكنة فنون، جمع (خَنّ)، بفتح أوله وتشديد ثانيه مع الوقف. وهو عربي الأصل، لكن دخله تحريف العامة، وأصل الكلمة عند العرب: المَخَنَّة، بفتح الخاء، وهو: الفِناءُ. و: حرم البيت، أي وسطه. و: مَضِيقُ الوادي، وفُوَّهَةُ الطريق. كذا في «القاموس» و«التاج» و«اللسان».
هذا عن أصلها العربي، وهناك دلائل تشير إلى أن استخدامها الحالي أتى من اصطلاح البحارة، فقد جاء في «معجم اللغة العربية المعاصرة»: «خُنُّ المركب: قعره، خزّان الماء في قعره»(1). كما جاء في المرجع نفسه: « وخُنُّ الدَّجاج: مأواه الذي يبيت فيه، وعاء يبيض فيه الدَّجاج ويرقد على البيض حتى يفرِّخ». وهو بهذا يشترك مع المعنى السابق في كونه مكاناً حصيناً أو محصناً، بعيداً عن متناول الأيدي.
الملاحظة الرابعة
قال: «وأما أول استخدامات المنور: فكان في بناء تلك الأبراج».
التعليق:
لا أدري ماذا يقصد بالأبراج!. وكأنه يريد تشبيه بيوت أهل شبام لعلوها بالأبراج، وفي الوصف تجوز، ولم نسمع أحداً سماها من قبل بالأبراج، نعم، أطلقوا عليها: ناطحات السحاب، وسموها العالية. أما الأبراج، فهي جديدة! ولا أراها تناسب.
الملاحظة الخامسة
قال: «وأيضاً، من فوائده: دخول الإضاءة والتهوية، ومواد صيانة المبنى».
التعليق:
الضمير يعود على المنور، وسبق التنبيه وتكرر على أن الصحيح تسمية ذلك الموضع بالشُّمْسِة. والفوائد الثلاث لا خلاف عليها، إلا الأخيرة، فهي نادراً ما تكون، كما قدمنا شرحه وبيانه.
الملاحظة السادسة
قال: «ملاحظة: عامل الصيانة في أعلى المبنى، عندما يتنقّل، فإن في أركان السطح وضعوا أعواد، تشكّل مع ضِلعَي الزاوية من البناء: مثلث. ويتسلقها العامل عند تنقله من سطح لآخر، وتكون بديلاً للسلّم، يسميها أهل شبام، الشّرْبَيعه».
التعليق:
ما ذكره صحيح، ولكنه يخلط في الاصطلاحات، فهو هنا يتحدث عن السطح، المعبر عنه في لهجة أهل شبام بالرَّيْم، ويجمع على رُيوم. وتقدم معنا أن السطح عندهم: هو الطابق الأول الذي يكون إما مربضاً للأغنام، أو مخزنا للقوت.
وأما الشرْبَيعة! فكلمة غريبة، ولا أدري هل سمعها من بعض الأهالي مما يدل على أن بعضهم يستعملها، أما أنا فلم أسمعها من أحد.
نعم؛ التسلّق على تلك الأعواد أو ما يشبهها، يقولون له: الشَّرْبعَة، يقال: تشربع، يتَشَرْبَع، والهيئة: الشربعة. وفلانٌ مِتْشِرْبع، أي متسلق. بل تطلق الشربعة حتى على الصعود على السلم الخشبي المتنقل، غير الثابت، الذي يسمونه: مَشْعَبِةْ. وبحثت طويلا عن أصل جذر شربع، فلم أجد. ولعلها من العامي الدخيل. وقد تكون مهرية أو حميرية أو غير ذلك.
وأما المشْعَبِة، بميم مفتوحة فشين معجمة ساكنة فعين مهملة مفتوحة فباء موحدة تحتية مكسورة فهاء: فهو السُّلَّم المتنقل، غير الثابت. وهو من العامي الفصيح، لأنه ذو شعبتين، ومنه المشْعَاب، الذي يسميه أهل شبام (المنْطَاب)، يصيد به شبَّانهم وغلمانهم الطيور.
المشعبة - سلم خشبي متنقل |
والمشعبة: قد تسمى (السِّيْري): بسين مهملة مكسورة فياء مثناة تحتية ساكنة فراء مكسورة فياء. وهذه الكلمة الأخيرة أصبحت في حكم النادر، ولكن أبي حفظه الله لم يزل يستعملها ويتلفظ بها على الدوام، ولم أعرف أصلها. ومن الكلمات التي لم أعرف أصلها، مما سمعته من الوالد: السَّوْتَرِي، يطلقه على الحبال المتخذة من الليف. كما وعيتُ عنه كلمة مَطْيَبِة: وهي كلمة حبَشيّة، يطلقها على الإناء المقَعّر، الذي نسميه في شبام: الغَافِقِي، ويسميه أهل الحجاز وغيرهم: زِبْدِيَّة. وغيرها من الكلمات، وقد جمعت الجميع في قاموس لا يزال قيد التحرير، وهذه التحريرات التي أدرجتها هنا من ذلك القاموس، يسر الله إتمامه في عافية.
الملاحظة السابعة
قال: «وأما في خارج مدينة شِبام: قد تشاهد بعض الآبار المقابلة لتلك البيوت. وفالحقيقة [كذا!] هي ليست آبار مثل الآبار المعتادة، وهذي يسمونها حِسي، بكسر الحرف الأول، وليست عميقة، إذ إن عمقَها كما علمتُ: حوالي المترين، و في هذا العمق تظهر مياه عذبة، نظراً لوفرة المياه، وكانت تظهر في عمقٍ أقل بكثيرٍ، كما علمتُ».
التعليق:
لا داعي هنا لأمّا، لأن الفقرة الواردة ليست معطوفة على مغاير لها في سياقها. فحديث الكاتب كان منصباً على تعريف الشُّمْسِةْ ومنافعها، ثم فجأة خرج بنا إلى (عَرْض السدة)، وتجوَّل بنا في بطحاء شبام، وعرج على الأحْسَاء.
ووصفه لأحساء بطْحَاء شبام، بأنها مقابلة البيوت، وصف غير دقيق. نعم؛ هي مقابل بيوت السِّحِيل النجْديّ لشبام، وهي خارج سور البلد (الدَّور). ولو وصفها بأنها تقابل البلدة كلها، لكان أدق في الوصف.
والسِّحِيْل، بسين فحاء مكسورتين فياء ساكنة فلام: هو البناء على سفوح الجبال، مرتفعا عن بطن الوادي. وهذا اللفظ مستعمل في وادي حضرموت الكبير، دونً بقية الوديان الأخرى. فأهل دَوْعَن ورَخْيِةْ وعَمْد وغيرها، يسمون تلك المواضع: العَرض بفتح فسكون، ويجمع على عُروض، بضمتين، كما في عروض آل عامر (العوامر) في النِّجْد، وعرض آل مخاشن، وغيرها. وفيها يقول الشاعر الشعبي في ذكر مقتلة بين يافع والبادية:
يا العَرْض عِرْبِنْ لي ومدّ القادية .. الخ.
وقد أورده السقاف في «إدام القوت» في سياق أخبار وادي دوعن، فينظر فيه.
قال أبوعمرو بن العلاء الشيباني في كتاب «الجيم»: «السَّحيل: ما رأيت من السيل ممدوداً». وفي «لسان العرب»: «والمِسْحَل المِنْحَت والرِّياح تَسْحَل الأَرضَ سَحْلاً تَكْشِط ما عليها وتَنْزِع عنها أَدَمَتها ... والسَّاحِل: شَاطِئ البحر والسَّاحِل رِيفُ البحر فاعِلٌ بمعنى مفعول، لأَن الماء سَحَلَه، أَي: قَشَره أَو عَلاه». انتهى. وهذه المعاني كلها متحققة في السحيل، لأن مواضعها إنما تكونت بفعل المياه الجارفة والفيضانات العظيمة التي كانت تجري في هذه الوديان في القديم والحديث.
* * *
وقوله: «هي ليست آبار مثل الآبار المعتادة»، إلى آخر كلامه.
التعليق:
هذه من الأمور البدهيات عند العرب قديماً وحديثاً، فالأحساء قولاً واحداً هي غير الآبار، ولا يدور في خلد أحد أن الحسي هو البئر، وإلا لما اختلفت التسمية. فالعرب تعرف أن الأحساء عبارة عن تجمع للمياه في أرض صلبة، تكون على عمق قريب من سطح الأرض، بخلاف البئر.
قال ابن سيده (ت 458هـ) في «المحكم»: «الحسْيُ: السهل من الأرض يستنقع فيه الماء وقيل هو غلظ فوقه رمل يجتمع فيه ماء السماء فكلما نزحت دلوا جمّتْ أخرَى». ومثله في القاموس، وزاد السيد مرتضى في «التاج»: نقلا عن الأزهري قوله: «الحسْي: الرمل المتراكم أسفله جبلٌ صلد ، فإذا مُطِر الرملُ، نشَف ماءُ المطر، فإذا انتهى إلى الجبلِ الذي تحته، أمسكَ الماءَ، ومنع الرملُ حرَّ الشمسِ أن يُنشّفَ الماء. فإذا اشتدّ الحرُّ، نبتَ وجْه الرملِ عن الماء، فنبعَ بارداً عذْباً، يتبرَّضُ تبرُّضاً. واحْتَسى حِسًى: احتفره. قال الأزهري : وسمعت غير واحدٍ من بني تميمٍ يقولُ: احتَسينَا حِسْياً، أي: أنبَطْنا ماءَ حِسْيٍ».
والذي نعرفه أن بئار الأحساء التي كانت في بطحاء شبام ثم اندثرت، كانت آباراً مطوية، عليها حجارة كطي البئر تماماً، فلهذا السبب ظنها بعض من نظر في الصور القديمة لبطحاء شبام آباراً، وهي ليست كذلك.
صورة قديمة ونادرة لشبام من جهة السحيل، ويرى أناس متجمعون وسط البطحاء، نخمن أنهم يستقون من حسي هناك |
كما أنه أشار إلى عذوبة ماء الأحساء، وهذا مخالف لما سمعناه من الآباء والأمهات، الذين عاصروا فترة السَّقي من تلك الأحساء. فكلمتهم متفقة على أن مياه الحسي التي كانت تجلب من البطحاء مياهٌ مُرّةً، وكانوا يستخدمونها لأغراض ما سوى طبخ الأكل بها أو شربها، وكانت مياه الشرب تجلب من آبار أخرى على طريق القارة، قارة آل عبدالعزيز، أو من بئر سعيدية، الواقعة بالقرب من كُوْت سِعَيدِيَّة الشهير، في سِحِيل شبام، تحت جبل الخِبِّة، وثمةَ آبار أخرى، منها بئر جَبْر التي هي في حوزة آل التُّوَي اليوم، وبئر سميطة، الواقعة في أرض تعرف بدجاجة، وهي أرض تتوسط سحيل بن مهري، وبئر سميطة تلك كانت في حائطٍ، وبجوارها مصلى ينسب لسيدنا الإمام العارف بالله، الحبيب محمد بن زين بن سميط (ت 1172هـ).
صورة لشبام من فوق جبل الخبة المقابل لها من الجهة البحرية (الجنوبية) وترى بيوت سكان السحيل في أدنى الصورة، ويفصل بين شبم والسحيل: البطحاء |
الملاحظة الرابعة
قال: «وفي وسط الفتحة تماماً، هناك وضعوا عجلةً معلقةً، يتدلّى منها حبلٌ، يبدأ طرفه من الأسفل، ويلف بالعجلة فالأعلى [كذا!] ويعود للأسفل. يسميها أهل شبام: بالدلدال.
فعندما يأتي من يحمل أغراضاً، لا يحتاج للصعود، بل يدخل من الطابق الأول، ويهز الحبل، ويكون الحبل مرئياً من ساكني تلك الطوابق، أو بعد أن يدخل إلى أسفل المنْوَر: ينادي بالاسم، ثم ويضع أغراضه في سلة، ويسحب حبل الدلدال إلى أن تصل إلى الطابق الذي يريده، ويتم التقاط تلك الأغراض.
وأيضاً: هنا وسيلة أخرى لنقل وتبادل الأغراض بين البيوت المتجاورة، ولكن يتحرك الحبل والسلة عمودياً بين البيتين، ويربط بين الطاقتين، الأخلاف».
التعليق:
لا يزال الكاتب يتحدث عن (الشمسة) التي تارة يسميها (المنور)، وتارة يسميها (الفتحة)، وهذا يسبب إرباكاً للقارئ، فلا بد عند الكتابة عن المصطلحات أن تكون موحدةً، لا تكتب في كل مرة بصيغة وصورة مغايرة لما قبلها.
ووصفه للشمسة بأن فيها فتحة معلقة .. الخ كلامه، وصف غير دقيق، وغير صادق على ما يعتاده أهل شبام. وأرى أن الكاتب اختلط عليه وصف الشُّمْسِةْ في حال وجود أعمال بناء أو ترميم في البيوت فتستخدم فيها (السِّرِهْ) التي ذكرها، وسماها هو (عجَلة)، وإنما تسمى عجَلةً إذا كانت مجرَّدةً عن الحبل، أو سحب الحبل منها، أما حينما يوضع الحبل فيها فتسمى كلها هي وحبها (السِّرِهْ) بكسرتين فهاء ساكنة.
ومن الأمثلة الشبامية: العَجْلة ما هي في السِّرِهْ. يطلق على من أصابه أمر عكر مزاجه، وأفقده صوابه. تشبيهاً لشروده الذهني بخروج الحبل عن نطاقه في السِّرِهْ مما ينتج عنه وجود خلل في التفكير، كاختلال الحبل وعدم إيفائه بالغرض الذي نصبت من أجله السِّرِهْ.
ونعود إلى الوصف، فالشُّمْسِة كما قلنا: لا يعتاد أن تركب فيها سِرِهْ كما وصف الكاتب، بل هي في العادة خالية من تلك المظاهر. ولا تركب السِّرِهْ إلا إذا احتيج إليها لرفع الطين المستخدم في البناء أو أي مواد أخرى، ثم تبعَد، والمعتاد في تركيب السِّرِيْن (جمع سِرِهْ) أن تكون في كَور الدار، ويكون العمل في الجدران الخارجية بحبال غاية في القوة، بحيث تقوى على رفع شخص متدلٍّ في الشارع وإنزاله أو رفعه رويداً رويداً.
نعم؛ قد تركَّبُ في الشُّمسِةْ (سِرِينَ) صغاراً، لتسهيل حركة الحبل المستخدم لفتح غلق الباب الرئيسي (الضيقة)، الممتد من الطبقات العليا المسكونة، إلى باب الدار، ولكن هذه السِّرينَ الصّغارَ لا تقوى على رفع الأشياء. وفي كل الأحوال المتقدمة، فوصف الكاتب غير دقيق وغير صادق على ما ذكر.
* * *
والكلمة الأخيرة في عبارته (الأخْلاف)، كأنه يريدها جمع خَلْفِةْ، بفتح فسكون فكسر، وهي: النافذة، بلهجة أهل شبام. ولكنهم لا يجمعونها على (أخلاف)، والصواب: خِلَافْ، بكسر ففتح. ولا نعرف شيئاً يسمى (الأخلاف) كما ذكر الكاتب الفاضل.
والمنافذ من غير الأبواب، في البيوت الشبامية أنواع، منها: الخلفة، والمشراف، والفرخ، والكوة، والعكرة، وغيرها. فأما الخلفة، فسبقت، والخلاف تكون في غرف المعيشة فقط، وهي مصنوعة من الخشب وفيها زخارف بديعة جداً، وبعضها كان يجلب من الهند، وتصنع من خشب الساج المتين.
وأما المشْراف: فهو المنفذ المطل على الشارع من جدران الريوم (عادة)، وتكون المشارف مبنية من أساس الجدار، وتكون فتحته متجهة إلى أسفل، ولا يستطيع الناظر منه أن ينظر إلا إلى جهة السفل فقط، ويستحيل على من في الشارع أن يميز وجه الشارف، رجلا كان أو امرأة، إنما يميزه بالصوت فقط، لعلو المشراف، فالريوم عادة ما تكون في الطابق السادس فما فوق. ويجمع المشراف على مَشَاريف.
وكانت في بعض البيوت الشبامية مشارف في بعض الخلاف (النوافذ)، وهي قليلة جدا، وتكاد أن تكون قد انعدمت اليوم.
خلفة (نافذة) ذات مشراف خشبي |
وأما الفَرْخ، بفتح فسكون: فهو الفتحة التي تعلو الخلفة، وهي عالية، إنما تنفذ الضوء، وتسد بالزجاج الشفاف الصافي، لتدخل كمية من الضوء إلى غرف المعيشة. ويجمع على فروخ. ولا أدري من أين أتت تسمية هذا المنفذ بهذا الاسم.
صورة لبعض بيوت شبام، وتظهر الفروخ واضحة فوق النوافذ |
وأما العُكْرة، بضم فسكون ففتح، وتجمع على عُكَر، بضم ففتح: فهي المنافذ الصغيرة التي تكون في سطوح المنزل [الطابق الأول] فما دون، وهي طويلة عميقة بعمق الجدار، ومعلوم أن جدران الطبقات السفلى من البيوت الشبامية أثخن وأسمك من الطبقات العلوية، وفق هندسة البناء المعماري الشبامي، المخروطي الشكل. وعادة ما تسد تلك العُكَر بأعواد خشبية على شكل حرف اكس الإنجليزي (X)، لتمنع دخول القطط والطيور.
صورة لغيلة (مخزن = وضيع: لحفظ الماعون والأواني زائدة) وتظهر العكر فيه واضحة، مع الأعواد المشبكة التي وصفناها وشكلها هنا مربع |
وتسميتها بالعكر فصيحة، مأخوذ من العكر، وهو الغبار الدقيق، الذي يسميه العرب: النقع. والعكر: بقية الشيء. كالثُّفْل الذي يتبقى في الإناء من الشراب أو المرق. قال الجوهري في «الصحاح»: «وعَكْرُ الماءِ والشراب والدُّهْنِ: آخرُه، وخَائره. وقد عكَر، وشراب عَكِرٌ. وأعْكَرتُه أنا، وعكَّرتُه تعكيراً: جعلت فيه العَكْر».
والعَكْرُ في اللهجة الشبامية: هو التّرابُ (النقْعُ) المثار بسبب الرياح والهبوب الشديد، ويسمى (الزَّاخِي). وهو أيضاً: الغُبَار الناعم الذي يتجمع في تلك المنافذ أو في سطوح المنزل، أو عند المداخل، من أثر ريح أو هبوب. وأشده وأنعمه ما يتجمع في العُكْرَة، فإنه عندما يكنس يخرج منه غبار كثير، لذا فلابد من التلثم (التخطم) عند تنظيف العُكَر من الغبار.
والطاقة، عندنا في شبام، لا تطلق على المنافذ البتة. وإنما تطلق على الحيز الذي يترك في جدران بعض غرف المعيشة أو النوم وسط الجدار، شبيهاً بالأرفف، فتوضع فيه الحاجيات، وكانت توضع فيه المسارج في زمن ما قبل الكهرباء. والمسَارِجْ: جمع مَسْرجة، فصيحة. يستخدم فيها القاز (الكيروسين) المنقوعة فيه فتيلة الإضاءة. واستعيض عن المسارج في القرن العشرين بالجرامِلْ، جمع جَرْمل، وهو مصباح ألماني يوقد بالكيروسين، ولكنه ذو زجاجة تحمي الفتيلة من تيارات الهواء، فتبقى مشتعلة. ثم جاءت بعدها التريكات، أو الإتريكات كما يسميها البعض، وهي جمع: تِريْكْ، أو إتْرِيك، وهو ذو شمعة تطلق ضوءا أبيض شديد الإضاءة. وقد أدركنا الجرامل والتريكات، أما المسارج فأدركها من قبلنا.
وأما المواضع الني يغلق عليها، وتكون لها أرفف في الجدران، ولها أبواب وغلَقٌ (أقفال ومفاتيح)، فنسميها في شبام: التَّيْحَةْ. وتجمع على تِيَحْ، بكسر ففتح.
صورة تحمع بين الجرمل (على اليمين)، والإتريك (التريك) على اليسار. |
* * *
الدِّلْدَال:
ثم تعرّض الكاتب إلى وصف (الدِّلْدَال)، بدال مهملة مكسورة فمهملة مفتوحة بينهما لام ساكنة، ويجمع على: دَلادِيْل، بوَزْن مفاتيح. وهو: آنية تستخدم لتدلية أو رفع الأطعمة والأشياء الخفيفة من خارج البيت (عادةً) إلى الطوابق العليا، بدون احتياجٍ إلى النزول إلى أسفل البيت، كما ذكر الكاتب. وقد تستخدم أفقياً، بين البيوت المتجاورة، وليس (عمودياً) كما ذكر، ولعله سبق قلم منه.
وكلمة دِلْدَال: من العامي الفصيح، أصله: التدَلدُل وهو التهدّل، والاسترخاء. قال أبوعمرو بن العلا الشيباني (ت 206هـ) في كتاب «الجيم»: «والدُّلدلَّة، تقول: عنز دلدلة، وعنزٌ طرْطُبّة، وهما مسترخيتا الطَّبْيَين». واتفقت كلمة أهل اللغة على شرح الدلدلة والتدلدل بهذا المعنى، وخير من رأيته عرف التدلدل بالتدلي، هو الأمير العلامة الباقعة اليماني نشوان بن سعيد الحميري (ت 573هـ) في «شمس العلوم»، فقال: «تَدَلْدَلَ: الشَّيءُ: إِذا تحرك مُتَدَلّياً». ووافقه الدكتور مختار في «معجم اللغة العربية المعاصرة» فقال: «تدلدلَ الشَّيءُ: تحرَّك مُتَدَلِّيًا، تهدَّل، اسْتَرْخَى. تدَلْدَل الثّوبُ: استرخى واضطرب؛ تدَلْدَلتِ السَّتائرُ». وفيه أيضاً: «دلدل رجليه في الماء: وضعهما في الماء وحرّكهما». والحركة لا تلزم.
دلاديل أهل شبام قناديل الجنة:
ولتلك الدلاديل الشبامية، أخبارٌ غاية في الروعة، تدل على فضل أهل تلك الدمنة الغالية، وأخلاقهم العالية. فإن أهالي الدمنة الصفراء، اعتادوا أنهم إذا سمعوا حسّ إنسانٍ غريب تحت بيوتهم، استرقوا النظر في خفية، وتأكدوا أنه غريب، كأن سمعوه يسبح أو يذكر بصوت عالٍ، في صورة من صور الحشمة عن مد اليد بالسؤال، وجلس على دكة أحد البيوت العامرة المطروقة، فإنهم يسارعون إلى ملء (دلاديلهم) بما تيسر من الطعام، الذي يكون في العادة شيئاً من خبز الذرة أو البر، ويضعون معه شيئاً من الإدام، وقد يكرمونه بما تيسر من الدارهم. ثم يدلدلون دلدالهم إلى حيث يجلس الغريب المسكين، فيأخذ ما في الدلدال، ويشبع جوعته. ثم يمضي في ستر الله. وكم شهدنا ونحن صغار جداتنا وأمهاتنا يفعلن ذلك الفعل الحميد، مع مساكين العبيد.
وهناك مقولة عظيمة، وعبارة فخيمة، لم نزل نسمعها من آبائنا عليهم الرضوان، وهي من مقول سيدنا، شيخ شيوخ أهل شبام المتأخرين، بركة أهل عصره وزمانه، الحبيب أحمد بن حسن العطاس باعلوي الحسيني (ت 1334هـ)، الذي لم يزل يتردد إلى شبام، منذ سن شبيبته إلى سن شيخوخته، وكم كان يأنس في بيوت أهلها الذين كانوا يتفانون في خدمته ومحبته، ويكادون أن لا يدعوه يضع قدمه على الأرض من إكرامهم إياه. وهو الذي اشتهر عنه قوله: «دلاديل أهل شبام قناديل الجنة». ولتلك العبارة السائرة، قصة، وأي قصة.
حدثني سيدي ووالدي، أمتعنا الله بعافيته، وغيره من كبار أهلنا، عن جدي لأمي، الشيخ العاقل الفقيه الوجيه، عوض معروف باذيب (ت 1402هـ)، روح الله روحه في الجنان: أن سيدنا الحبيب الإمام، البصير بقلبه، أحمد بن حسن العطاس، رحمه الله ونفع به، في إحدى قدماته إلى شبام، ولعلها سنة 1327هـ، خرج يوماً بعد أن صلى في المسجد الجامع، وكان يخطمه ويقوده الجد عوض، وهو في سن الشبيبة، [مولد الجد عوض رحمه الله سنة 1314هـ].
قالوا: وبينما الحبيب يسير في طرقات البلدة، إذ توقف تحت أحد البيوت، وأخذ يحادث من حوله برهة من الوقت، فتعجب الناس لوقوف الحبيب في ذلك الموضع. ثم لم يشعروا إلا وقد دلدل أهل ذلك البيت دلدالهم، وفيه أقراصٌ من خبزٍ ساخن، خرج للتوِّ من تنّوره، فقال الحبيب أحمد لمن حوله: ما هذا الصوت؟. فأجابوه: هذا دِلدَالُ آل البيت الفلاني.
فقال لهم: انظروا مافيه. فنظروا فإذا فيه خبز ساخن طري، فأخبروه، فقال لهم: خذوه.
ثم قال لهم، وقد أطرق رأسه معتبراً، ما معناه: إنما أردت التأكد من بقاء هذه العادة المباركة في أهل شبام، فقد كنا أيام ترددنا على شبام قبل خمسين سنة، نسمع أنه إذا جاء مسكين إلى البلاد، وقفَ تحت أحد البيوت، فيعرفون حاجته، فيدلّون له في الدلدال ما يسد جوعه. ثم قال قولته الشهيرة: «دلاديل أهل شبام قناديل الجنة»، فبكى من حوله ممن حضر وسمع كلامه. رحمهم الله ورضي عنهم.
وختاماً ..
قال الكاتب وفقنا الله وإياه: «وهذه بعض خفايا مدينة شبام ..».
ونقول له: نعم، هي بعضُ بعْضِ البعْض .. وما خفي، ولم يكتب أو يدوّن، أكثر بكثير. وأنى أن نحيطَ بفكر وحضارة دمنة مباركة، كانت محط قوافل الأمم من الشرق والغرب، منذ عهود حمير وسبأ والأذواء والأقيال .. حسبنا وحسبك من القلادة ما أحاط بالجيد.
وأكرر شكري للكاتب على ما أثاره من شجون، وحركه من خواطر. والله الهادي والموفق، لا إله غيره، ولا رب سواه. وصلى الله على أسعد مخلوقاته، وأشرف أهل أرضه وسماواته، محمدٍ شفيع برياته، وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
سلاما قلعة الوادي .. شبام |
والمأمول من الناظرينَ من أهل الحذق والمعرفة، أن يدلوا بما لديهم، وأن يصححوا ما رأوه خطأ في ما سطرته، فكلنا محل الخطأ، ولهم الشكر مقدماً.
محمد باذيب، ليلة السبت 28 ربيع الأول 1434هـ
المصادر والمراجع:
1- عبدالحميد، أحمد مختار، معجم اللغة العربية المعاصرة، (بيروت: عالم الكتب، 1429هـ/ 2008 م).
2- ابن فارس، أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة.
3- الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين.
4- الأزهري، تهذيب اللغة.
5- ابن سيده، المخصص.
6- ابن منظور، لسان العرب.
7- الفيروزآبادي، القاموس المحيط.
8- الزبيدي، تاج العروس.
9- السقاف، إدام القوت.
10- نشوان الحميري، شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم.
11- أبوعمرو بن العلاء الشيباني، كتاب الجيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق